الرياء صفة ذميمة تَذهب بالإنسان إلى وحل المعصية والإثم، وتمنعه من الأجر والمثوبة من الله تعالى؛ لأنه لم يقصد بعمله وجه الله، وإنما فعل ما فعل وعينه على الناس، يلتمس منهم الرضا، ويتطلع إلى إعجابهم.. فكان جزاؤه العادل أن يأخذ أجره ممن تطلع إليهم، أي من الناس، وليس من الله تعالى.
وقد حذرنا الله تعالى من الرياء في مثل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (الماعون: 4- 6). وجاء في الحديث الشريف: “مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ” (رواه البخاري).
ويقال في اللغة: “تَرَاءَى الْقَوْمُ، إِذَا رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَرَاءَى فُلانٌ يُرَائِي. وَفَعَلَ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لِيَرَاهُ النَّاسُ” (مقاييس اللغة لا بن فارس، 2/ 473).
والإنسان قد يرائي الناس بشيء من العبادة أو بغيرها من أمور الدنيا، والأمران مَنهيٌّ عنهما؛ غير أن النوع الأول أشد؛ إذ المسلم مطالَب في كل أحواله بأن يبتغي وجه الله تعالى؛ لا يطلب إلا رضاه، ولا ينشد إلا ثوابه.
يقول أبو حامد الغزالي، رحمه الله: “اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية، والسُّمعة مشتقة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير؛ إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات، وتطلب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها؛ فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائِي هو العابد والمراءَى هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمراءَى به هو الخصال التي قصدَ المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك. والمراءَى به كثير وتجمعه خمسة أقسام، وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس؛ وهو: البدن، والزِّيُ والقول، والعمل والأتباع والأشياء الخارجة. وكذلك أهل الدنيا يراؤون بهذه الأسباب الخمسة، إلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهونُ من الرياء بالطاعات” (إحياء علوم الدين، 5/ 383).
غير أننا نريد أن نتجاوز بهذا المفهوم (الرياء) النوعَ الشائع منه، وهو الرياء بالعبادة، إلى أنواع أخرى لا تقل خطورة، ومع ذلك لا ننتبه لها بما يتناسب مع هذه الخطورة!
ويمكن القول بأن الرياء ثلاثة أنواع:
الأول الرياء الديني: وهو المعروف في كتب الرقائق، أي أن يرائي المرء الناسَ بعبادته، ولا يفعلها خالصة لوجه الله.. وما أكثر المؤلفات التي سُطرِّت في ذلك!
الثاني: الرياء السياسي: أي نفاق الطبقة المحيطة بمن بيدهم الأمر، فلا يُشيرون بمشورة ولا يُدلون برأي إلا وأعينهم على عين الحاكم، لا على المصلحة العامة. بل إنهم يزيّنون القبيح ويقبّحون الحسن، ولا يُسمعون الحاكم إلا ما يحب سماعه ولو كان على غير الحقيقة؛ حتى يحافظوا على مكانتهم وامتيازاتهم..
يقول الشيخ الغزالي: “كما يَنبت الشرك فى أحضان الوثنية ينبت الرياء فى ظلال الكبر، وحيث يوجد السادة المستكبرون يوجد الأتباع المتملقون والأشياع المراءون. وجو الحكم المطلق أحفل الأجواء بجماهير العبيد الراضخين للهون عن طواعية أو كراهية، وفى الحرب التى شنها القرآن الكريم على هذه المجتمعات المظلمة ترى الهجوم يتتابع على مبدأ “السيادة والتبعية”، وعلى ما يلحق هذا الجو إلغاء للعقول والضمائر” (الإسلام والاستبداد السياسي، ص 38).
وكم عاني التاريخ البشري في كل الأمم من هذا النوع الخطير من الرياء، الذي لا يعود على الأوطان إلا بالتراجع والخسران..!
النوع الثالث: الرياء الاجتماعي: (وقرأت هذا المصطلح لأول مرة عند الشيخ الغزالي، رحمه الله)، أي أن يمارس الإنسان أمور حياته الاجتماعية وعينه على الناس، لا على مقاييس الجائز والممنوع أو الخير والشر، بل ولا على مصلحته الذاتية.. فما يُرضي الناسَ يفعله، ولو كان غير جائز، أو ولو حمَّله ما لا يطيق!
وهذا أمر شائع خاصة في مراسم الزواج؛ من المغالاة في المهور أسوةً بالناس لا غير.. ومن التبذير في نفقات الأعراس والطعام المعَد لها، والأماكن التي تقام فيها..
بل تمتد مظاهر الرياء الاجتماعي لتشمل مراسم الموت والعزاء! فلا بد أن يُنشر نَعْي بالصحف، ويقام سرادق عزاء كبير في قاعات فخمة.. فضلاً عن المغالاة في تجهيز المقابر بما يليق باسم العائلة!
وكم أفسدت هذه المظاهر الجوفاء طمأنينة الأسر والبيوت، وجرَّت عيلهم الخراب، وحمَّلتهم ما لا يطيقون.. حتى نرى الأفراح وقد انقلبت إلى هموم وأحزان.. والمآتم صارت مضاعَفة الأعباء.. ورب الأسرة في حيرة لإرضاء الزوجة التي لا تكف عن النظر إلى من حولها، دون مراعاة للفوارق المالية (التي هي فوارق طبيعية في كل المجتمعات، وليس مطلوبًا أن يكون كل الناس أغنياء).. ودون نظر إلى طاقة الزوج ماليًّا.. فيلجأ الرجل- حينئذ- إلى أساليب غير مشروعة لإرضاء نهم الزوجة، وتكون العاقبة غضبَ الله تعالى، والعقوبةَ في الدنيا بالحبس أو الفصل من العمل! ثم نسأل بعد ذلك: لماذا ذهبت السكينة من البيوت؟! ولماذا مُحقت البركة من الأرزاق؟!
ولنا أن نتساءل هنا: إن مجتمعاتٍ كبَّلت نفسها بهذه التقاليد والأعباء الاجتماعية والمالية، متى تتفرغ لِهَمِّها الأكبر؟ ومتى تنشغل بشأنها العام؟!
وهل الأسرة التي تنشغل طوال اليوم بهذه المظاهر الجوفاء، ستفكر في عمل يعود بالنفع على المجتمع؟ أم ستظل تدور في ساقيةٍ من العمل والتعب، ومن إرضاء الشهوات والنزوات، ومن مسايرة التقاليد والعادات، ومن الفردية والأنانية؟!
وأما علاج الرياء فهو كما سجَّله أبو حامد الغزالي في رسالته لتلميذ طلب نصيتحه، وجعلها بعنوان (أيها الولد): “واعلم أن الرياء يتولَّد من تعظيم الخلق؛ وعلاجه أن تراهم مسخَّرين للقدرة، وتحسبهم كالجامدات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة، لتخلص من مراياتهم. ومتي تحسبهم ذوي قدرة و إرادةٍ لن يبعد عنك الرياء”.
فالدواء أن تجعل نظرك مُعلَّقا بالله تعالى وحده، وتدرك أن الناس مسخَّرين لقدر الله، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا.. فتجعل أوامر الله ونواهيه نصب عينيك.. وتفعل ما يعود عليك بالنفع، دون أن تتحمل ما لا تطيق.. وتربي نفسك ومَن تعول على القناعة والرضا، وعلى البساطة وعدم التكلف أو التصنع..
فما أشد حاجتنا لنخرج من هموم دائرتنا الصغيرة إلى دائرتنا الكبيرة؛ مما يتصل بأمور مجتمنا وأمتنا.. فما خُلقنا لذواتنا فحسب، ولا يليق بنا أن نحيا في جُزر معنزلة عن محيط مجتمعنا، وعما يواجه أمتنا من تحديات..!