اقرأ أيضا:
إن ذلك السائق يستطيع كسب رزقه من خلال العمل داخل المنطقة التي يعرف تفاصيلها، لكنَّ الفلاسفة والمنظِّرين لا يستطيعون تأمين الحاجات الروحية والعقلية للناس عن طريق شرح مواصفات الغذاء الصحي وشرح مواصفات السلوك الإنساني الذي يراعي شروط المحافظة على البيئة وتعليم مهارة صنع طائرة حديثة… ومن هنا فإني أشعر وأنا أقرأ لكثيرٍ من الكتّاب الغربيين أنهم يتحركون حركة واسعة جداً لكن ضمن كهف مظلم، وأحياناً أشعر أنهم يشبهون في محاولاتهم العثورَ على طريق مفتوح العصفورَ الذي وجد نفسه في قفص كبير، وذلك لأن الإنسان يملك أشواقاً عارمة لمعرفة المصير الذي ينتظره بعد الموت، والعقل البشري غير مؤهَّل للوصول إلى معرفة ذلك المصير من غير إرشاد خارجي.
هذا كله لا يعنينا كثيراً لولا أننا بتنا نلمس بقوة طروحات كثيرة تمضي حول الرؤية الغربية في التنظير للحق والواجب والسعادة والشقاء…، وهذا أدّى إلى إرباك وعي كثير من الناس تجاه تحديد المطالب الأساسية للنهضة والتقدم، ولا أريد الاستفاضة في هذا الموضوع، لكن أودّ أن أوضح بعضاً من أهم ملامح هويتنا الحضارية، على أمل الحفاظ على القواسم المشتركة التي تصوننا من تمزق النظر إلى الذات وإلى المستقبل، وأنا أزعم أن من أهم تلك الملامح الأمور الثلاثة الآتية:
1- قطعيات هي من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة، أي يستوي في معرفة كلياتها الخاصة والعامة، وذلك مثل الإيمان بالله – تعالى- وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومثل أركان الإسلام الخمسة، ومثل كبائر المعاصي كقتل النفس والزنا وشرب الخمر والسرقة وأكل الربا… إن هذه القطعيات تشكل بالنسبة إلى المسلم أطراً واضحة للتصور والتفكير والبحث وإصدار الأحكام… وإن عدم الاعتراف بها أو بشيء منها، يزيد كثيراً في أضراره على أضرار جهالة سائق سيارة أجرة بالشوارع الرئيسية في المدينة التي يعمل فيها.
2 – أولوية البناء العقلي والروحي والخلقي على البناء العمراني، أي إن تثقيف العقول وتزكية النفوس وترسيخ المبادئ والأخلاق الفاضلة أهم من بناء الجسور وإقامة الحدائق وشق الطرق السريعة… وهذا يعود إلى أن التقدم الحقيقي في الرؤية الحضارية لدينا هو تقدم روحي خلقي بامتياز، وهو التقدم الذي كان يشكِّل الهاجس الأكبر لجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد على هذا الملمح بطريقة لا تقبل الجدل؛ إذ إن أكثر من 99% من الآيات القرآنية يتحدث عن التقدم العقلي والروحي والسلوكي لبني الإنسان.
3- كل المكتسبات الحضارية وكل الإنجازات العمرانية، وكل المكتشفات على كل الأصعدة لا تشكل في رؤيتنا الحضارية أكثر من وسائل، مطلوب منا استخدامها للوصول إلى الهدف الأسمى في هذه الحياة الفانية، وهو القيام بأمر الله ـ تعالى ـ على أفضل وجه ممكن، والفوز برضوانه، وهذا الملمح في غاية الأهمية؛ لأنه يعصمنا من الغرق في التفاصيل والضياع في متاهات الحقوق والمصالح المتضاربة ومتاهات ضوابط استخدام القوة وتوظيف الإمكانات المتاحة..
ليس المهمُّ عند أخذ ما أشرت إليه بعين الاعتبار سهولةَ الطريق الذي نسلكه، كما أنه ليس من المهم السرعة التي نمضي بها، إنما المهم هو النقطة التي يوصلنا إليها ذلك الطريق، لأن ضياع الهدف الأكبر يعني أن يصبح كثير من أشكال العناء الإنساني وكثير من إنجازات البشر أشياء من غير أي معنى، وهذا يعادل فقْد الوجود ذاته.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين