الأصل في مفهوم العبادة في الإسلام أن تكون التزاماً مطلقاً بالتكليف الإلهي الذي يؤمن به المسلم بغض النظر عن فلسفته ووظيفته، فالعبادات كما يقول علماء الأصول غير معللة وهم يعنون بذلك أنها لا تخضع للتعليل والتوسع بالقياس، وأنها لا تنعدم بانعدام العلة كما هو الشأن في أحكام تكليفية أخرى كالمعاملات، كما أنهم يجيبون بذلك عن بعض التكاليف التعبدية التي لا تقبل الفهم العقلي، وبالتالي فقضايا العبادات ذات بعد روحي مناطه الدينونة لله عز وجل، لكن هذا الحكم لا يستلزم كونها غير قابلة للفهم أو أنها من قبيل العبث الذي تنـزه الله عنه، هذه الاحتمالية دفعت بعض العلماء كالشاطبي إلى اعتبار العبادات أيضاً خاضعة للتعليل.
رغم الموقف العام بأن العبادات غير معللة إلا أن الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً حفل بالدراسات التي تشرح فلسفة العبادات في الإسلام وتبين وظيفتها السلوكية والاجتماعية، فكان للغزالي في “الإحياء” وابن القيم في “زاد المعاد” دور في إبراز هذه المعاني، أما حديثاً فيعتبر كتاب “الأركان الأربعة” لأبي الحسن الندوي نموذجاً في هذا المجال، وقد توسع هذا الجانب من الكتابات حتى أصبحت في فترة من الفترات تعبر رؤية تناهض الأيديولجيات التي كانت سائدة، كما هو الحال مع سيد قطب في “العدالة الاجتماعية في الإسلام” ومصطفى السباعي في “إشتراكية الإسلام”، وذلك تأسيساً على فريضة الزكاة والصدقات.
ولعل فريضة الصوم وقدوم شهر رمضان يمثل مناسبة لإثراء الحديث عن طبيعة العبادات ووظائفها، لاسيما وأن نسبة كبيرة من المسلمين يشعرون في هذا الشهر بيقظة في الضمير ونمو للوازع الديني والأخلاقي، ويندفعون للتعبد وتلافي التقصير الذي درجوا عليه في أيامهم العادية، ولئن كانت بعض هذه المستجدات في سلوك المسلم الرمضاني ترجع إلى العادات والتقاليد الاجتماعية في هذا الشهر الفضيل فإن الوازع الأهم ديني بالدرجة الأولى لأن المحور في ذلك هو الصوم وهو فريضة فردية يمارسها المسلم.
إن المظاهر الإيجابية في سلوك المسلمين في رمضان لا تعكس وعياً بدور الصوم فيها، لكن الوعي بدور العبادة يعزز تقويمها للسلوك، فالنصوص التي تتحدث عن العبادات مستفيضة بهذه الأبعاد الوظيفية التي ينبغي أن تؤديها ممارسة العبادة. فقد شرع الإسلام العبادات والأركان لمساعدة المسلم في أداء واجبه تجاه أخيه الإنسان، وليتحقق من معنى حديث رسول الله ﷺ : “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، فالصلاة عند إقامتها كما يجب تنمي لدى المسلم دافعاً للخير ووقاية من الشر، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45) ، { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:41)، وكذلك الأمر بالنسبة للزكاة والصدقات التي هي علاقة اجتماعية ابتداء إذ هي تأدية حق المحتاج في المجتمع من مال الأفراد الذين فضُل المال لديهم عن حاجتهم، فأداء الزكاة إسهام فعَّال في تحقيق معنى إسلام المسلم في بعده الاجتماعي والأسري، أما فريضة الحج فهي تتويج لصفاء العلاقة بين الناس ورقيها وتجسيد لسلامة البيئة والناس من أذى المسلم بجميع أشكاله اللفظية والمادية والمعنوية { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } (البقرة:197)
أما الصيام في شهر رمضان فإنه يتجاوز معناه الحرفي (الامتناع عن المفطرات في زمن محدد)، ليتعلم الإنسان الصائم التحكم برغباته، والتحلي بالإرادة الجيدة الهادفة إلى تغيير العادات السيئة التي اعتادها الشخص في حياته، وذلك من خلال الدور الرقابي الذاتي الذي يرافق أداء الفريضة التي تتميز بسريتها وخصوصيتها بين العبد وربه، لكن المطلوب لتؤتي الفريضة ثمارها أن يتحول هذا الدور الرقابي من إطار الاعتياد واللاوعي إلى إطار الملاحظة والوعي، فالصائم يمتنع لا شعورياً عن المفطرات دون أن يفكر بقدرته تلك على الامتناع وإمكانية تعديتها إلى ممنوعات أخرى في غير الصيام، فملكة التحكم بالإرادة واحدة لدى الإنسان ويمكن أن تنمو في بعض المجالات عندما تعزز الإرادة، فالصائم بصومه إنما يُدِين نفسه ويقيم الحجة على اعتذاره عن التقصير في شؤونه الأخرى الدينية والدنيوية.
وقد نوهت آيات الصوم صراحة على عدم قصدية الامتناع عن الطعام والشراب في الصوم لذاته فنصت أن الله يريد اليسر ولا يريد العسر بالناس، فالمبتغى ليس المشقة إنما امتحان إرادة المسلم وتنبيهه إلى مراقبة نفسه واسشعاره بالمسؤولية في شؤونه، وقد جاءت نصوص السنة تؤكد هذه المقاصد في شريعة الصوم، والتي تتجاوز ترك الطعام والشراب إلى ترك سائر المنهيات لاسيما المتجاوزة في آثارها إلى الغير فـ”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” ( صحيح البخاري )، وتؤكد الأحاديث على دور الصوم في تنمية الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه في سلوكه وحديثه، كما في الحديث القدسي”كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم” (صحيح البخاري) وفي رواية ” إذا أصبح أحدكم يوما صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم”(صحيح مسلم).
فالصوم يضع المسلم أمام قدراته الذاتية ويصور له إمكاناته المستقبلية، وعندما يدرك المسلم هذه القدرات والإمكانات سيشعر بتقصيره في عمله وبقدرته على تجاوز أخطائه، وبالتالي سينمي الصوم لدى المسلم الشعور بالمسؤولية في الحياة عموماً وبالخصوص نحو الوقت، والجسد، والمجتمع، والقدرة على اتخاذ القرار، كما يؤكد الصوم للمسلم تمتعه بالحرية والإرادة والعقل وقدرته على التحكم في السلوك.
ونختم بنص لـ ابن القيم يعرض فيه فلسفته للصوم: “لما كان المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوعُ والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجارى الشيطانِ من العبد بتضييق مجارى الطعام والشراب، وتُحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثاراً لمحبة اللَّه ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم.”. (زاد المعاد في هدي خير العباد: 2/28-29)