يدور جدل في الأوساط الدينية والعلمية، حول ما بات يُعرف بـ “الطب النبوي”، وقد شاع هذا المصطلح بعد انتشار كتاب بهذا الاسم، وهو مقتطع من كتاب “زاد المعاد” لابن القيّم -رحمه الله- حيث طبع طبعات عديدة، وأصبح مرجعاً رئيسياً في هذا الباب، وشكّل ثقافة واسعة بتصورات مختلفة، بعضها صحيح وبعضها باطل، والمشكل الأكبر هو أن بعض المشايخ قدّموا أنفسهم على أنهم مختصون بهذا الطب، ويعالجون المرضى على أساسه، وقد رأيت حالات لا أستطيع أن أفهمها، إلا أنها جرأة على دين الله وعلى عباد الله، جرأة ممزوجة بالجهل وربما بالطمع أيضاً، ومن أجل توعية القارئ الكريم، أضع هذه الملحوظات المتعلقة بالكتاب أولاً، قبل تناول الموضوع نفسه:
أولاً : إن كثيراً مما ورد في هذا الكتاب لا يستند إلى حديث صحيح ولا حتى ضعيف، وإنما هو خبرة بشرية بحتة تتناسب مع إمكانيات ذلك العصر، ومن ذلك مثلاً، أنه ذكر عشرين سبباً للصداع، ليس فيها سبب واحد مستند إلى حديث، ومثل ذلك حديثه عن الطبائع الحارة والباردة، واختلاف الشعوب في ذلك، وذكره لبعض العادات والتجارب البشرية البحتة.
ثانياً : إن كثيراً مما ورد في الكتاب مما له صلة بالأحاديث الشريفة، جاء ممزوجاً بتحليلات المؤلف وتفسيراته، وفق خبرته المحدودة في ذلك العصر، فهو مثلاً يذكر حديثاً في التمر، ثم يتوسع هو في بيان خصائص التمر وفوائده، فيظن القارئ أن كل ذلك من حديث رسول الله ﷺ، مع أن المؤلف نفسه يعزو بعض هذه المعلومات إلى أطباء عصره، أو العصور السابقة، فهو ينقل عن ” القانون” لابن سينا، وعن الجرجاني وأبي عبيد وبقراط وغيرهم، وأحياناً يعزوه إلى جمع من الأطباء دون ذكر أسمائهم، كما قال في شرحه لحديث ذات الجنب: ” قال بعض الأطباء: وأما معنى ذات الجنب”.
ثالثاً : لقد وقع المؤلف -رحمه الله- في الاستشهاد بأحاديث كثيرة لا صحة لها، وقد خرّجها المحققان القديران، شعيب الأرنؤوط وعبدالقادر الأرنؤوط، وعليه فلا يصح العمل بهذه الأحاديث، وليس في هذا مثلبة بحق المؤلف، فغالب كتب المرويات والسنن كذلك، فهي تحوي الصحيح وغيره، إلا صحيحي البخاري ومسلم، وهذا معروف عند أهل هذا العلم.
رابعاً: إن المؤلف لم يدّع ما يدّعيه بعض مشايخ التطبيب اليوم، ويكفي أن نقتبس هذه الجملة من مقدمته: “ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان”، فها هو من الأساس يعلن أنه لا يتكلم عن علم قابل للملاحظة والقياس كما هي العلوم المعروفة، وإنما يتكلم عن استشفاء باليقين والإيمان، أكثر منه استشفاء بالأسباب العلمية والعلاجات المادية المدروسة.
خامساً: إنه احتاط لنفسه، فأكد أن الطب النبوي قد لا يناسب إلا فئات مخصوصة، فقال في حديث الحجامة: “إشارة إلى أهل الحجاز والبلاد الحارة”، وقال في علاج عرق النسا: “هذا خطاب للعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم، ولا سيما أعراب البوادي”، بمعنى أن ليس كل حديث ورد يصح تعميمه على كل المرضى، وإن كان الحديث صحيحاً في نفسه.
هناك مقولات حلّت في ثقافاتنا الدينية محل الحقائق والمعتقدات المسلّمة، ومن هذه المقولات: أن الإسلام دين فيه كل شيء من الذرّة إلى المجرّة، وأذكر أن أحد الوعّاظ كان يحكي أن “المستر كوك” -وهو أحد وجوه الاحتلال البريطاني الأول للعراق- وقف أمام أحد الشيوخ وسأله: أنتم تقولون إن القرآن فيه كل شيء، فأين أجد اسمي في القرآن؟ قال تجده في الآية الأخيرة من سورة الجمعة {وتركوك قائماً}، وإن كانت هذه نكتة أو طرفة، فهي اليوم تمثّل نهجاً متبعاً وثقافة شائعة.
إن الغيرة على الدين والتحفّز للدفاع عنه من الصفات المحمودة والأمور المطلوبة، لكن ينبغي أن يكون ذلك بعلم ووعي وإلا كانت النتيجة معكوسة، فإذا تحدّثت مثلاً عن طب نبوي أو إسلامي أو إلهي -وهي كلها بمعنى- فينبغي عليك أن تتنبّه إلى نقطتين اثنتين..
الأولى: أن يكون عندك ما تثبته علمياً، ولا يكفي هنا الإيمان المطلق، فعلم الطب له أركانه وقواعده وتفصيلاته، كالتشخيص وما وصل إليه من مختبرات التحليل المتطوّرة وأجهزة الأشعة المتنوّعة، ثم العلاج بالأدوية التي تشمل كل الأمراض المعروفة تقريباً على سبيل الاستقراء وتقدير الجرعات والآثار الجانبية وما إلى ذلك، ثم يأتي التدخّل الجراحي والعمليات الصغرى والكبرى وطرائق التخدير، وقبل كل ذلك ما يُعرف اليوم بالطب الوقائي… إلخ. فهل تستطيع يا أخي أن تستحضر من النصوص القرآنية والنبوية ما يغطّي لك كل هذه الأركان ويجيبك عن كل هذه التفاصيل؟
الثانية: أن يكون عندك ما يُثبت تفوّق الطب الإلهي على الطب الإنساني من كل النواحي، فالطب الإلهي لو كان موجوداً بالفعل، لكان طباً شاملاً كاملاً ولا يمكن أن يحوجك إلى غيره، فانظر إلى مشايخنا ووعّاظنا، حتى أولئك المهتمين بالإعجاز العلمي أو الطبّي، كيف يترددون على مؤسسات الطب الحديث كما يتردد غيرهم، ولا يكتفون بما عندهم من آيات وأحاديث؟
كيف نتحدّث عن طب إلهي ثم لا نذكر إلا الحجامة وشربة العسل والحبة السوداء ونحو هذا، بينما يتحدث الطب الإنساني عن أدق التفاصيل العلمية في كل جزئية من زوايا الطب، من تكوين الخلية حتى زراعة القلب والكبد والكلى وجراحة المخ والأعصاب… إلخ.
الحقيقة أن القرآن ليس كتاباً في الطب، كما أنه ليس كتاباً في الفيزياء ولا الكيمياء، ولا الفلك ولا اللغات ولا التاريخ ولا الجغرافيا ولا الصناعة ولا الزراعة، القرآن ليس مكتبة علمية ولا جامعة أو كلية.. القرآن كتاب هداية وعقيدة وشريعة وأخلاق، وما ورد فيه من شذرات وإشارات في أي علم من هذه العلوم فإنما يؤخذ بسياقه ومقصده، دون تحميله فوق ما يحتمل، ودون أن نجعله بديلاً عن العلوم البشرية التي تنمو وتتطور مع الأيام، فهذه العلوم أقرب إلى تحقيق المقاصد القرآنية، ومن ثَمّ فلو سألني مريض عن الطب الإسلامي الذي يرتضيه الإسلام لمراجعة المرضى لما ترددتُ في إرشاده إلى المؤسسات الطبية المعتمدة، وليس إلى بيوت الوعّاظ والمشايخ.
وقديماً قال علماؤنا المحققون: حيثما كانت المصلحة فثَمّ شرع الله. وأما جعل الإسلام في كفّة والعلوم الإنسانية في كفّة أخرى فهذا جهل بالإسلام وتغرير بالإنسان.