عشرة مجلدات كبار، هي مجموع كتاب “درء تعارض العقل والنقل” لشيخ الإسلام ابن تيمية، يبين فيها بأدلة إجمالية وتفصيلية منطلقاته في رفض القاعدة المشهورة، التي روج لها الأشاعرة ومن نحا نحوهم بأنه إذا تعارض النقل والعقل، فإما: أن يجمع بينهما، وهو محال؛ لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً.

وإما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل، وتأويل النقل.

ربما يتصور البعض ممن يستصعبون البحث الطويل، ربما يتصور هؤلاء أن ابن تيمية ضد العقل، لكن هل يعلم هؤلاء أن ابن تيمية ناقش هذا القانون مناقشة عقلية، وبنى رفضه له بناء عقليًّا!

لقد بنى أصحاب هذا القانون موقفهم على أن العقل هو أساس النقل، فبالعقل عرفنا ربنا، وبالعقل عرفنا صدق النبي محمد ، ومن هنا يجب تقديس العقل؛ لأننا إذا رددناه أمام النقل، كان ذلك نسفا للأداة التي عرفنا بها الله سبحانه، ومن ثم يلزم منها نسف معرفة الله؛ فلا بد أن يبقى العقل معصومًا، حتى يلزم منه عصمة معرفة الله سبحانه!

قد يبدو هذا البناء منطقيا، بل قد يبدو أنه لا يدعي عصمة للعقل لذات العقل؛ ولكن لأنه الوسيلة للحفاظ على النقل، متمثلا في أعز معلوماته ( معرفة الله، ومعرفة صدق رسوله).

قانون متهافت عقلا

لكن ابن تيمية لا يرى ذلك، بل يرى أن هذه النظرية نظرية متهافتة ساقطة، لماذا؟

الإجابة على ذلك، هو مادة الكتاب بمجلداته العشرة، مع بيان تداعيات هذه النظرية.

يفاجئ ابن تيمية أصحاب هذا القانون بسؤال قد يبدو بسيطا؛ لكنه في الحقيقة محور النظرية.

السؤال هو : ماذا تقصدون بالعقل؟ هل أداة التفكير؟ أم المعلومات التي عرفناها بواسطة العقل؟

إذا كان المقصود بالعقل هو أداة التفكير، فنعم، فلا يمكن لغير العاقل أن يتوصل إلى دليل نقلي أو عقلي، فبدون هذه الأداة لا سبيل إلى الوصول إلى أي دليل.

عن أي عقل نتحدث

ثم يذكر أن هذا ليس مرادهم؛ لأن أداة التفكير لا يمكنها أن تعارض المعلومات النقلية، فالمعلومات تتعارض مع معلومات، وليس مع أدوات الحصول على معلومات، فمثلا إذا قارنا ناتج عملية حسابية، توصلنا إليها من خلال الجهد البشري العادي، فإننا نقارنها بناتج توصلنا إليه من خلال الآلة الحاسبة، فإذا كان ناتج الجهد البشري أن 144* 144 =20735، فلا يمكن أن يأتي إنسان ويقول إن هذا الرقم يتعارض مع الآلة الحاسبة، أي مع ذلك الجهاز المصنوع من حيث ذاته.

لكن إذا أجرينا هذه العملية الحسابية بواسطة الآلة، وكان الناتج 20736، استطعنا حينئذ أن نقول : إن نتيجة الجهد البشري تتعارض مع نتيجة الآلة الحاسبة.

عن أي معلومات عقلية نتحدث؟

وبعد أن يصل ابن تيمية إلى أن مقصود أصحاب القانون، هو المعلومات العقلية، وأنها هي التي تقدَّم إذا تعارضت مع المعلومات الشرعية؛ لأنها هي التي دلت عليه، بعد أن يصل إلى ذلك يقول لهم : المعلومات التي توصلنا إليها من خلال العقل كثيرة، منها مثلا ( المعلومات الحسابية الرياضية) مثل أن 2+2 = 4، فهذه المعلومة عرفناها بالعقل، ومن نازع فيها اتهم بالجنون.

فإذا كان الأمر كذلك، فهلا قصرتم المقابلة بين المعلومة العقلية التي عرفنا بها صدق الرسول ، وأن لهذا الكون إلها، فحينئذ تكون هذه المعلومة العقلية هي أصل النقل، فهي التي يصدق عليها أنها إذا رددناها، كان ذلك نسفا لما بني عليها من النقل، وإلا فما دخل بقية المعلومات العقلية؛ إنها لم تكن أساسًا في معرفة النقل، فردها لا يستلزم نسف النقل؛ لأنها لم يُبن عليها هي، وإن كان قد بني على معلومات عقلية غيرها.

ومعلوم أنه لا يلزم من صحة معلومة عقلية، صحة جميع المنتجات العقلية. والإنسان يشهد من نفسه أن عقله يهديه للصواب مرة، ويهديه للخطأ أخرى!

الفرضية الغائبة

ومن الأصول التي بنى عليها القوم هذا القانون، أنهم ذكروا الفرضيات الممكنة للتعارض بين المعلومات النقلية والمعلومات العقلية، ثم ذكروا أن جميع هذه الفرضيات مستحيلة القبول إلا فرضية واحدة، هي المقبولة.

وهذه الفرضيات هي :

1- الجمع بينهما، وقالوا إنه محال؛ لأنه جمع بين النقيضين.

2- رد النقيضين، و قالوا إنه محال؛ لأن النقيضين لا يرتفعان. أي : لا يُردان.[1]

3- رد المعلومة العقلية، وهذا محال؛ لأنها أصل النقل.

4- رد المعلومة النقلية، وهذه الفرضية الوحيدة المقبولة في نظرهم؛ فلزم المصير إليها.

وهنا يفاجؤهم ابن تيمية مرة أخرى برد عقلي، هو قوله : ما الدليل على أن الفرضيات أربع فقط؟

لقد نسيتم فرضية خامسة، وهي التي يجب المصير إليها والقول بها.

هذه الفرضية، هي رد العقلي في بعض الحالات، ورد النقلي في بعض الحالات، وليست هذه الحالات مبنية على المحاصصة، ولكنه يقدم بناء مطردا للفصل بين هذه الحالات، وهو القطعية والظنية، فأيهما كان قطعيا، فهو الذي يجب قبوله نقليا كان أو عقليا، وأيهما كان ظنيا، فهو الذي يجب رده نقليا كان أو عقليا.

وفي ذلك يقول : ” فالواجب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، وإما أن يكونا أحدهما ق طعياً ولآخر ظنياً.
فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما: سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً، وهذا متفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله: ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة.
وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان، وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين، وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي، أو أن يكون مدلولاهما متناقضين، فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين.وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي، فإن الظن لا يرفع اليقين.

وأما إن كانا جميعاً ظنيين: فإنه يصار إلي طلي ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم، سواء كان سميعاً أو عقلياً.” درء تعارض العقل والنقل (1/ 79).

الخيال العقلي

ويبين ابن تيمية بعضًا من أسباب القصور التي أدت إلى صياغة هذا القانون الخطأ، فيبين أن السبب أنهم فرضوا فرضيات عقلية، وقرروا عليها بعض النتائج، مع أن هذه الفرضيات ليست موجودة أصلا في الواقع، إنما هي خيال عقلي، فليس في الواقع دليل قطعي يعارض دليلا قطعيا، حتى نبحث ما الذي يجب تقديمه على الآخر.

وهكذا يفند ابن تيمية القانون تفنيدًا عقليًّا، فكيف يقال : إن ابن تيمية ضد العقل.

إنه ضد النتائج التي يفرضها الخيال العقلي.


[1] – النقيضان مثل هاتين الجملتين : زيد واقف الآن، زيد ليس بواقف الآن.

، فهاتان الجملتان لا تجتمعان ولا ترتفعان، بل لابد من وجود إحداهما، وعدم الأخرى. فزيد لا بد إما أن يكون واقفا، أو غير واقف، لكن لا يمكن أن يكون في آن واحدا واقفا وغير واقف معا، كما لا يمكن أن لا يكون في آن واحد واقفا وغير واقف.