ما تلقيناه من تراثنا العلمي النفيس منذ فجر الإسلام يمثل حقيقة هويتنا الدينية والثقافية، الحاوي للعزة والمجد والكرامة، وما قرأناه ورأيناه قديما وحديثا من الجهود الحثيثة والعناية التامة بالسنة النبوية – صنو القرآن الكريم – تدوينا وتوثيقا ودفاعا عن بيضتها، وإنما هي في الواقع عناية بالدين وحمايته من الضياع والتحريف.
ولقد حفظ الله لنا سنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام بأئمة النقلة الجهابذة، قيدوها وجمعوها بأسانيد تقام بها الحجة في تبيين صحيحها من سقيمها خروجا من العهدة، وكان من جراء تلك التضحيات النادرة الفوز بالمصادر المتنوعة تكمن في طياتها مئات الألوف من الأحاديث النبوية والتي بها المكتبات الإسلامية عامرة في أقطار المسلمين من قديم الأزمنة وحاضرها، فأصبحت أمتنا أغنى الأمم تمتلك كنوز سنة نبيها عليه الصلاة والسلام.
ثم جاء هذا القرن وهذا العصر وهو فخور بذلك الإرث النبوى العظيم، وتزين بضخامة مصنفات السنة في مختلف الاتجاهات العلمية المسددة، إلا أنه لم تزل الخدمة قائمة تنادى بتكميل السير وأن كتب السنة مفتقرة إلى تأصيل جديد وتطوير، وفق عرض عصري، وتحرير عميق، والذى من شأنه أن يزيد بهاء السنة ومكانتها، ومن هذا الشعور التجديدي خرج عديد من العلماء المعاصرين بمشروع موسوم بتقريب السنة بين يدي الأمة، فنقبوا مصادر السنة تنقيبا طويلا وأمعنوا في البحث والمطالعة واستفادوا وأفادوا كثيرا، وربما تتبلور صورة ذلك مجملة في الجانبين الرئيسين:
أولا: محاولة تصفية مصادر السنة من مردود الأخبار القولية والفعلية والتقريرية وما له صلة بها.
وفي القديم قد تنفع مقولة “من أسند فقد أحالك” بيد أنها لم تعد اليوم تجد نفعا، إذ نحن في عصر لا يميز أهله بين صحيح الحديث وسقيمه بمجرد إبراز الإسناد، وعليه يتعين الواجب التطويري في هذا المسار، وهو الدور الذي قامت به ثلة مباركة من أهل العلم بالحديث في هذا العصر من خلال مجالسهم العلمية وتحقيق الكتب وتخريج الأحاديث، كما هو جلي من جهود أولئك الأربعة الأفذاذ: الشيخ رشيد رضا وأحمد شاكر والمعلمي والألبانى، والمطلع على سيرهم يدرك أنهم مدارس مستقلة من حيث المجهودات الضخمة والمآثر التجديدية الجليلة في مراجعة مصادر السنة وتصفيتها وصيانتها، ولا يخفى ما لكتب الشيخ الألباني من أثر كبير ملموس، ونتاج محسوس في تثقيف عموم المسلمين بصحيح وضعيف وموضوع من الأحاديث.
وكما للجامعات الإسلامية والكليات الرسمية أقسام السنة النبوية التى لم تزل تخرج نخبة من المتخصصين في الحديث وعلومه، الذين يسهمون إسهامات فعالة مستمرة في إيضاح القواعد والمبادئ في علم السنة بروح العصر، ولهم أيد البيضاء في تحقيق كتب السنة وتخريج الأحاديث والحكم عليها قبولا أو ردا.
ثانيا: محاولة تقريب وشرح متون السنة الصحيحة بلغة العصر.
تبويبات وعناوين كتب السنة النبوية الموروثة؛ تعنى بشرح لما في طياتها من الأحاديث، ولذا يقولون: فقه البخاري في تراجمه، وكما يصح القول: فقه أئمة كتب السنة في تبويباتهم، أي هي من اجتهاداتهم وثاقب نظراتهم في توضيح وتقريب معانى الأحاديث لمن بعدهم، إضافة إلى شروحات كتب السنة التى تزيد إبانة وإرشادا لكشف كثير من المعانى الغامضة، وربما في بعضها من الاستنباطات الدقيقة والألغاز قد لا تناسب فهوم العصر.
ولذا حاول العلماء تناول متون السنة تناولا عصريا منسجما بالواقع العلمى السائد، على طريقة المساق التكاملي، مع الاستفادة من المعطيات المعاصرة التي تجلي الحقائق العلمية الواردة في السنة النبوية، فظهرت العديدة من الشروح القديمة المجددة والمستجدة في عرض الحديث النبوي بطريقة عصرية، ومن ذلكم على سبيل مثال:
• الحديث التحليلي: هو دراسة حديثية فقهية تحليلية شاملة لحديث واحد فحسب، وأضيف إلى ذلك ذكر لطائف علمية أخرى ذات صلة بالحديث المشروح. كما تراه مثلا في كتاب: محاضرات في الحديث التحليلي، تأليف أ. د. أبو لبابة الطاهر حسين. وغيره من الكتابات الحديثة في هذا النوع.
• الحديث الموضوعي: عبارة عن جمع الأحاديث الواردة في قضية معينة أو موضوع محدد من مصادر السنة النبوية، كي يخرج الموضوع بصورة واضحة المعالم، وتكون أجزائه قالبة متماسكة متشابكة، وأفكاره متسلسلة لا اعوجاج فيها. وللشيخ أ.د. السيد نوح. “محاضَرات في الحديث الموضوعي” وكذا توجد رسائل علمية كثيرة مكتوبة ومنشورة في هذا الصدد يحمل عنوان “أحاديث كذا…جمع ودراسة أو دراسة نقدية فقهية ونحوها”، فدونكم: أحاديث الشهادة والشهيد جمع وتصنيف. لنزار عبد القادر ريان. رسالة ماجستير. نبوءات الرسول ﷺ ما تحقق منها وما يتحقق. لمحمد ولي الله عبد الرحمن النووي. أحاديث قراءة سورة الكهف يوم الجمعة جمع ودراسة. للدكتور رمضان الزيان. أشار إلى هذه الأمثلة الشيخ رمضان إسحاق الزيان في مقاله “الحديث الموضوعي دراسة نظرية”.
• سبب ورود الحديث: نظير سبب نزول القرآن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 13/339): “ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يُورِث العلم بالمُسبب؛ “.
وكذا الأمر في سبب الورود سواء، وهو من العلوم المتجددة في هذا العصر وعني به كثيرا، ومما كتب فيه كتاب: علم أسباب ورود الحديث وتطبيقاته عند المحدثين والأصوليين – د. طارق أسعد لحلمي الأسعد .
والحاصل أن طرق الشروح العصرية للسنة النبوية كثيرة، وهي تنفرد بنصيب وافر من اهتمام المتخصصين والجامعات الإسلامية، بل تقفز قفزة نوعية في تدريب الطلاب على الدراسة الموضوعية التى تهدف إلى كشف المقاصد وراء كل حديث من خلال ما احتف به من الملابسات والقرائن، ومن ثم تنزيله في الواقع المعاصر اللاحق به بلا التملص من التراث العلمي العتيق.
هذا، وإن الدراسة التقريبية الحديثة للسنة النبوية تدل على مدى حرص الأمة في خدمة مصادرها الأصلية والعناية بها، وتؤكد شمولية السنة النبوية لمختلف مجالات الحياة وأنها- والقرآن الكريم- كفيلة حاجات الناس المتجددة، وتجد الأمة فيها دوما حلولا جذريا لجميع مشاكلها العصرية ما دام تعود إليها وتعتصم بها.
وأيضا، تمثل مراجعة مصادر السنة النبوية القمة الدفاعية الحقيقية عنها، لأن من مهمتها أن تميز صحاح السنة عن غيرها، وتؤلف بين الروايات المتعارضة في الظاهر كي يتبين فقهها الصحيح، وتوضح الناسخ من المنسوخ بغية الوصول إلى مقصد الحكم، وهلم جر من الدراسات العميقة التي تلقم أعداء السنة النبوية حجرا وتخرس ألسنتهم ولا تبقى إلا دولة الحق.