عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس ” . (رواه البخاري ومسلم)

الغنى في اللغة

الغني: يقال لعدم الحاجة مطلقا، وليس ذلك إلا لله وحده، فهو الغني عن عباده، وهم الفقراء إليه { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ } محمد:38.

ويقال لقلة الحاجات كما يقال لكثرة القنيات، والعرض: ما ينتفع به من متاع الدنيا وحطامها، وأما العرض:فهو ما كان من المال غير نقد، وجمعه عروض.

شرح حديث الغنى غنى النفس

الغني في عرف الناس من كثر ماله، وعظمت ثروته، من ضياع واسعة.وجنات ناضرة. وعمارات شاهقة. وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة وخيل مسومة (1) . وأنعام راعية، وعروض نامية، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الغني ليس بسعة الثروة. ووفرة المال. وكثرة المتاع ولكن الغنى غني النفس، فمن استغنى بما في يده عما في أيدي الناس، ولم تشرف نفسه عليه، ولم تتطلع إليه، فهو الغني الجدير بلقب الغنى، وإن كان في المال قلا إذ رضاه بالقسم وعفته، وزهده وقناعته، جعلته في درجة من الغنى دونها بطبقات أهل الثراء الذين حرموا الرضاء والزهادة بل أولئك ليسوا من الغنى في شيء، وإن غني النفس مطمئن القلب. هادىء البال.

لا يلحف (2) في سؤال. ولا يحرص على مال. ولا تذهب نفسه حسرة إذا فاتته صفقة (3) أو ضاعت عليه فرصة. بل ما جاءه رضي به وقنع. وأنفق منه على نفسه وأهله. وبر الناس بعفوه وفضله. وهو من الناس ملك مبجل (4) . وأمير موقر. وعظيم معزز. إذ لم ينزل بهم حاجته ولم يملك الحرص عليه منته، والحاجة مذلة، والحرص معرة. فإن كان إلى غنى النفس غنى المال. فتلك الدرجة العلياء. والعزة القعساء (5) .

أما من كثر ماله. وتشعبت أملاكه. وقلبه موزع بين ضيعته وعمارته. وذهبه وفضته وفرسه وبقرته. ليس له همّ إلا جمع المال. يحرص عليه أشد الحرص، ويتميز (6) غيظا إذا فاته القرش، ويتمنى كل ما في أيدي الناس إلى ما في يده. بل يحسدهم على ما رزقوا من نعمة. يخشى عدوى الفقر إن مدت يده إلى فقير بدرهم.

ويحسب الجائحة (7) أن يتبرع لعمل خيري بيسير من وفره. ولم يبق ما يمتع فيه نفسه بثروته أو يقوم بواجبه لولده وزوجته. وقرابته وعشيرته ذلك هو الفقير حقا، المحروم صدقا. ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقروهل يكون غنيا من نفسه لما في أيدي الناس متطلعة. وليست بما في يدها راضية قانعة؟ هل يكون غنيا من هذا الحرص من قوته. وأعل من صحته. ومنعه التكالب (8) أن يروي نفسه من منهل العلم؛ ويغذّيها بلبان الحكمة؟ هل يكون غنيا من تبغي نفسه طعاما شهيا، أو ثمرا جنيا، أو لباسا رفيعا. فيأبى عليه حبه للمال. وشغفه بكنزه. إجابتها إلى طلبتها وتحقيق رغبتها؟ هل يكون غنيا من أولاده في بؤس؛ وأهله في ضنك يعيشون في أحضان الثروة ولكن من التمتع بها محرومون؟ ذلك بلا ريب فقير؛ وإن عده الناس غنيا.

 وذلك المعدم وإن حسبه الناس ثريا. وذلك الذميم البغيض، والبائس الفقير الذي جعل الله المال في يده ألما له وعذابا، ونكالا وعقابا ، قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ } المؤمنون: 55، 56 ، وقال تعالى {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ.يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ } الهمزة: 1- 4 ، وقال تعالى : { أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } التكاثر: 1- 3.

 اعلم أن السبيل إلى غنى النفس الرضا بما قدر الله وأعطى والثقة بأن ما عنده خير وأبقى، وأن المال في يد الشره البخيل فقر ومذلة. وفي يد القانع الكريم غنى ومعزة ، قال تعالى { وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ } سبأ: 37.


(1) مسوّمة: سوّم الشيء: أعلمه بسومة والسّومة: القيامة.

(2) يلحف: يلح بالمسألة وهو مستغن عنها.

(3) صفقة: البيعة.

(4) مبجّل: معظّم موقرّ.

(5) القعساء: ممتنعة ثابتة.

(6) يتميز: يتقطع.

(7) الجائحة: المصيبة تحلّ بالرجل في ماله.

(8) التكالب: تكالب على الشيء. تواثب كما تفعل الكلاب.