“لو أصبت في تسع وتسعين، وأخطأت في واحدة، لترك الناس ما أصبت وأسروها، وأعلنوا ما أخطأت وأظهروها، فانفض عنك غبار الناس”[1] الخوف من الفشل عائق في أن يُقدم الشخص على المحاولة مرة أخرى، وقد يكون انتقاد الناس مبررا للقعود والاستسلام؛ لكن قد يكون الفشل ذو قيمة إيجابية؛ إذ يكسر الغرور، ويكشف جوانب الخلل في النفس ومسار الحياة.
الفشل في الرؤية الإسلامية
ورد الفشل في القرآن في أربعة مواضع، في سورتي “آل عمران” و”الأنفال“، وارتبط بحالة الانقسام والتفرق داخل الأمة، خاصة في لحظة المواجهة مع الأعداء، لكن الفشل بمعنى الاخفاق في مسارات الحياة، أو ارتكاب أخطاء أثناء العمل، فإن الرؤية الإسلامية تعاملت معه من منظور مختلف، فهيمن عليها التصحيح والتحفيز، فالذنوب والأخطاء، باعتبارها من مظاهر الفشل الإنساني في الاستقامة، فإن الإسلام نظر إليها معترفا بالطبيعة البشرية التي قد تقع في الأخطاء؛ والتي يتوجب عليها التوبة والاستغفار، فـفي الحديث: “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون[2] ، وكان من سنة الإسلام عندما يضع المسلم رأسه على الوسادة للنوم أن يحاسب نفسه على ما فعله طوال اليوم، ثم يستغفر، أي يتعهد أمام ربه –سبحانه-بتصحيح مساره من جديد، وبذلك يجدد المسلم التزامه بالمعيارية في تقييم أفعاله، وهو ما يمكنه من النهوض من عثرة الذنب والخطأ[3] ، لذا فعندما يغمض عينيه، فإنه يغمضها على إصرار على النجاح، وعدم الاستسلام للفشل.
ومن ناحية أخرى شجعت الرؤية الإسلامية ألا يتهيب الإنسان من ولوج الأفكار والطرق الجديدة في الحياة، مادام قادرا على السير أو الاجتهاد؛ بل إنها منحت ذلك المخطيء أو “الفاشل” أجرا، مادام قد اجتهد وبذل ما وسعه تحصيلا لأدوات النجاح، وتنفيذا لأساليبه وطرائقه، وفي حديث “البخاري”:” إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ”، فالإسلام حفز على رفض الروح الاستسلامية للفشل، الديني والدنيوي، وفتح الآفاق للتائبين، والفاشلين للنهوض وإكمال الطريق.
الحياة والاخفاقات
القاعدة الذهبية في الحياة: “لا أحد محصن ضد الفشل”، فالجميع يتعرض للفشل، لكن هناك من ينهض ويتجاوزه، وهناك من يبقي في وحل تجربته، وهناك من ينكص عن الطريق بحثا عن مسار آخر، لأن الحياة لا تسير وفق ما نريد، غير أن الاصرار، قد يحول صعابها إلى فرص.
في دولة مثل “فنلندا” التي تعد من الدول ذات الدخل المرتفع، وذات المستويات التعليمية العالية، تم تخصيص عيد للفشل Day For Failure ، الذي يوافق يوم 13 أكتوبر من كل عام، هذا الاحتفال هو فكرة ابتكرها طلاب الجامعات عام 2010، عندما رأوا في أجيالهم إحجاما عن المشاريع والأعمال الجديدة، لذلك كان لابد من مواجهة “رهاب الفشل” من خلال تشجيع الناس على عدم الخجل من الحديث عن الفشل، وترسيخ أن الفشل أحد مكونات الحياة، التي نستكشف من خلالها الطريق الصحيح.
وهو ما يتفق مع ما قاله المفكر الأمريكي المسلم “مالكوم إكس”:” يجب أن نعلم أطفالنا عدم الخجل من الفشل، لأن معظم الكبار يرزحون تحت الخوف والحذر، ويركنون إلى الأمان، ولذلك تجدهم خائفين، ولذلك يفشل أكثرهم”.
وفي “هولندا” ظهرت عام 2020 مجلة علمية مهمة، تتحدث عن الأبحاث الفاشلة هي مجلة JOTE “الخطأ والصواب”
(Journal of Trial and Error) ، والتي تعتبر أن التجربة والخطأ أساسية للتعلم، لذلك تبحث عن الإجابة عن سؤال: “ما الخطأ الذي حدث؟”، وتكسر فكرة الخجل من الفشل البحثي، وترى أن نشره فرصة للباحثين الآخرين ليتجاوزوه، فعندما يعرف الباحث طريقا خطأ في إثبات الفرضية، فإنه يلجأ إلى سبيل آخر، وبذلك يكون الفشل الذي تحدثت عنه المجلة هو وسيلة لعدم تكراره، ومن الأوراق “الفاشلة” التي نشرتها المجلة فرضية تتحدث عن تأثير مشاهد العنف على إدمان الكحول، لكن الباحثة لم تنجح في إثباتها بسبب صغر حجم العينة، فنشرت البحث والمشكلات التي وقعت فيها، وبالتالي نبهت لعدم تكرار الخطأ.
الفشل والنكسات والاخفاقات أمر حقيقي في الحياة ومن بديهياتها، فالمكاسب محفوفة بالمخاطر والتحديات، لذا يجب عدم الاستسلام للفشل، فالإنسان بحماسته ومثابرته يمكنه ألا يجعل الفشل شيئا دائما، ليكون على موعد آخر مع النجاح، كذلك فإن الاستحياء من الحديث عن الفشل يفتح الباب واسعا لتكراره، وفي الرؤية الإسلامية أن الإصرار على الذنب خطأ جسيم، لذلك كان العارفون يقول:” لا صغيرة مع الإصرار” فالإصرار على الفشل يحول الأشياء الصغيرة إلى كوارث كبرى، وفي حديث البخاري:” إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه” فالذي يريد النجاح يرى الأخطاء عقبات لابد من تجاوزها، أما المستهتر فيرى الفشل ما هو إلا قدر محتوم لا يمكن الفكاك منه.
الفشل يجب أن يفتح أبواب التساؤل، لا أن يؤدي إلى تحطيم النفس والإرادة، فيعصف بداخل الإنسان، ويجعله هشا، قابلا للكسر والتحطم، لذلك عالج القرآن الكريم النفوس التي ضربها الفشل في “غزوة أحد”، وسعى لترميمها، حتى لا تكون الهزيمة نفسية، مؤكدا أن المعارك يتناوب الناس عليها انتصارا وهزيمة، فلا يجب أن تحطم الهزيمة النفوس، ولا أن يصيب النصر النفس بالغرور، قال تعالى:” وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ (١٣٩) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ” ، جاء في تفسير “المنار” أن الشيخ محمد عبده رأى في منامه النبي-ﷺ-راجعا من غزوة أحد، وهو يقول:” لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة”، يقول “عبده” :” أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء بشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر، وأخذ الأهبة وغير ذلك من الأسباب والسنن”، وهو درس أشار إليه رئيس وزراء ماليزيا “مهاتير محمد” من أنه: “ليس في تعاليم الاسلام ما يفيد بأن الفشل في الحياة الدنيا سينفع صاحبه في الآخرة “، وما أكده الشيخ “محمد الغزالي” بقوله:” أن الفشل في كسب الدنيا يستتبع الفشل في نصرة الدين”، وهي رؤية ترفض قدرية الفشل، وعدم مغالبته والانتصار على همته القعيدة.
والحقيقة أن العجز الناتج عن الفشل يشل إرادة الإنسان الضعيف، لأن ذلك الإنسان ينشد الأمان التام، وهو لا يكون إلا في السكون، يشير الدكتور “زكريا إبراهيم” في كتابه “مشكلة الحياة”: “أن الرجل القوي يقذف بنفسه إلى المعركة واثقا من أن من لا يخاطر بشيء لا يمكن أن يكسب شيئا؛ بل ولا يمكن أن يكون هو نفسه شيئاً”.
ومن النماذج الإنسانية التي استفادت من فشلها، المخترع الشهير توماس أديسون، الذي توصل إلى اختراع المصباح الكهربي، بعد آلاف المرات من المحاولات غير الناجحة، وكان يقول: ” أنا لم أفشل، أنا بكل بساطة وجدت 10000 طريقة لا يعمل بها المصباح “، بل إنه اضطر لتجربة 2900 معدن وسبيكة مختلفة حتى وصل إلى مبتغاه، وكان يقول:” إن ما حققته هو ثمرة عمل يشكل الذكاء فيه 1% والمثابرة والجد 99%” ، أما جايمس دايسون صاحب أكثر المكانس الكهربائية نجاحا، فقد توصل لصناعة مكنسته عام 1993 بعد أكثر من خمسة آلاف محاولة فاشلة من النماذج التي قام بتصنيعها على مدار عدة سنوات، حتى استقر على نموذجه النهائي.
[1] مقولة منسوبة للإمام الشافعي
[2] رواه الترمذي، وابن ماجة
[3] في حديث الترمذي أن من قال:”أَسْتَغْفِرُ الله العظيم الّذِي لا إلهَ إلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، ثَلاَثَ مَرّاتٍ، غَفَرَ الله لَهُ ذُنُوبَهُ وإنْ كَانَتَ مِثْلَ زَبَدِ البحْرِ، وإِنْ كانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشّجَرِ، وإِنْ كَانَتْ عَدَدِ رَمْلِ عَالِجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أيّامِ الدّنْيَا”