يظل تحدي القرآن الكريم لمخالفيه بالإتيان بمثله قائما طيلة الزمان، وهو تحدي أعجزهم، ودفع بعضهم للإقرار بعظمته، يقول المستشرق “بلاشير” Régis Blachère :”وإذا ما قورن القصص القرآني، ببعض الفصول المشابهة في سفر التكوين، المثقلة باللغو والاستطرادات، ظهر أنّ القصص القرآني، أعلى مرتبةً بما لا يقاس، فهو يتدرّج برشاقة دون إشارات زائدة، تسيطر عليه فكرة مُواسية؛ ألا وهي أنّ العادل ينتصر بإيمانه ووفائه”، ورغم ذلك الاعتراف إلا أن هناك قطاعا واسعا في الاستشرق يُعادي القرآن الكريم، وينفي مصدره الإلهي، ويشكك في الوحي، ويصر على أن القرآن منتج بشري، تأثر بالكتب السابقة خاصة اليهودية والنصرانية، ومن هؤلاء المستشرق المجري “إجناتس جولدتسيهر” (1921:1850م) أحد أهم الشخصيات التي أثرت في العقل الاستشراقي وشيدت موقفه تجاه القرآن الكريم، من خلال كتابيه “المذاهب الإسلاميّة في تفسير القرآن” و”العقيدة والشريعة في الإسلام”.

في إطار القرآن في مشروع “جولدتسيهر”، يأتي كتاب “المستشرق المجري أجناتس جولدتسيهر: دراسات نقدية لمشروعه القرآني” تأليف الشيخ محمود علي سرائب، كمحاولة لنقد منهجي للكثير من أفكار وأطروحات جولدتسيهر ومنهجه وجوانب من أساليبه في الاستدلال والبحث حول القرآن الكريم، يقع الكتاب في 400 صفحة، وصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، عام 2022، ضمن سلسلة القرآن في الدراسات الغربية.

جولدتسيهر..والقرآن

يعد فهم المستشرق “جولدتسيهر” ومنهجه في التعامل مع القرآن الكريم أمرا مهما، إذ أن أفكاره رسمت الطريق لغالبية الدراسات الاستشراقية التي جاءت بعده، ومن ثم فنقد هذا المشروع، هو تقويض للكثير من المقولات والأفكار الاستشراقية خلال قرن كامل، فالرجل علامة بارزة في الحقل الاستشراقي، ولعل هذا ما أشار إليه المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” بقوله: ” أي عمـل يهـدف إلى تقـديم فهـم للاستـشراق الجـامعي، ثـم لا يُـولي إلّا اهتمامًا ضئيلًا لباحثين مثل:  جولدتسيهر، يجب أن يقابل بالتأنيب”، فـ”جولدتسيهر” كان غزير الإنتاج عن الإسلام والقرآن، وهي رحلة استغرقت حياته بالكامل منذ أن أصدر دراسته الأولى عن القرآن وهو في التاسعة عشر من عمره، عندما عقد مقارنة بين طريقة “البيضاوي” في تفسير القرآن، وطرق شرح التوراة في التلمود، لتمضي مجهوداته، فهو صاحب فكرة إصدار المستشرقين لدائرة المعارف الإسلامية، كما كتب عددا كبيرا من أبحاثها، ونشر مئات المقالات، وله أكثر من خمسين وثلاثين كتابا، تناولت الإسلام: قرآن وسنة وفرقا ومذاهب، وكان أعمق المستشرقين معرفة بالحديث النبوي، وصاحب رؤية لهدم السيرة النبوية وتفريغها من قيمتها وأهميتها.

ويعد كتابه “المذاهب الإسلاميّة في تفسير القرآن” من أهم كتبه فقد أصدره في نهاية حياته، عام 1920، باللغة الألمانية، وهو أوّل كتاب أُلف في مجال المذاهب التفسيرية، ويعد خلاصة لأفكاره ولمشروعه حول القرآن الكريم، ويعد من أهم الدرسات التي قدمها المستشرقون حول القرآن خلال القرنين الماضيين، حيث خُصص ذلك الكتاب لدراسة القرآن الكريم، والقراءات، والمذاهب التفسيرية، ونقطة الانطلاق عند “جولدتسيهر” هي أن القرآن ليس كتابا مقدسا، أي أنه لم ينزل به الوحي، ولكن نتيجة “هلوسات” للنبي محمد، لكن السمة الغالبة في درسات “جولدتسيهر” حول القرآن هو التشكيك لا النفي المطلق، ويستخدم في ذلك أساليب منهجية في الاستدلال والاقناع.

 ويمكن القول أن مشروع “جولدتسيهر” تجاه القرآن الكريم، ارتكز على عنصرين أساسيين:

الأوّل: تجاه القرآن الكريم نفسه: فحاول التشكيك في مصدرية القرآن، فشكّك بأصل الوحي النبويّ، ونسب إلى النبيّ-صلى الله عليه وسلم- “الهلوسة” و”المرض النفسي”، وقد ردّ على هذه الفرية، المستشرق “ماكس مايرهوف” Max Meyerhof قائلا: “لقد أراد بعضهم أن يرى في محمّد رجلًا مصابًا بمرض عصبي، ولكن تاريخ حياته من أوّله إلى آخره، ليس فيه شيء يدل على هذا، كما أن ما جاء به فيما بعد من أمور التشريع والإدارة يناقض هذا القول”، كذلك أرجع “جولدتسيهر” القرآن إلى مصادر يهوديّة ونصرانيّة، وحاول الاستدلال على تحريف القرآن، وسلك في طرقا متعدّدةً، ورد على هذه الفرية، المستشرق ج. م. رودويل    J. M Rodwell بقوله: “لا توجد حجّة على أنّ محمدًا قد اطّلع على الأسفار المسيحيّة المقدّسة” كما أنه لم توجد أية آثار على وجود أي ترجمة عربية للتوارة والانجيل خلال زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وأقدم ترجمة للعهد القديم باللغة العربية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بأكثر من مائتي عام، كما أن اليهود كانت طائفة منغلقة في الجزيرة العربية، ولم يُعرف للمسيحية أي وجود مؤثر بين العرب، ولا يوجد أي دليل أن النبي-صلى الله عليه وسلم-كا يتقن السريانية أو العبرية أو أي لغة أخرى، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقرأ ولا يكتب.

الثاني: الطعن في التفاسير: فقد حاول “جولدتسيهر” إثبات أنّه حتى لو سلّمنا بالنّصّ القرآني، فقد تعرّض هذا النّصّ لنوعٍ من التحريف المعنوي من خلال مناهج ومذاهب التفسير، فكلّ مدرسة فسرّت النّصّ القرآنيّ بما يتناسب مع خلفياتها الفكرية، والعقدية، والفقهية، ولا يوجد عند المفسرّين أيّ منهج موضوعيّ علميّ لتفسير القرآن الكريم، وبالتّالي كلّ تراث المسلمين في مجال التفسير هو مذهبيّ ومدرسيّ، ويناقش “جولدتسيهر” حركة التفسير والمفسّرين بطريقة استدلاليّة مليئة بالأحكام والنتائج بغضّ النّظر عن واقعيّة وصحّة هذه النتائج، ولهذا، فهناك الكثير من أفكاره تعرضت للنقد المنهجي.

نقد جولدتسيهر

نقد الكتاب مشروع “جولدتسيهر” حول القرآن الكريم، وكان من أهمها مصدرية القرآن الإلهية، والتأكيد على سماوية الوحي، وأن القرآن الكريم ليس محرفا عن التوارة أو الإنجيل، وأشار الكتاب إلى عدة مناهج لجأ إليها “جولدتسيهر” أثناء دراسته للقرآن، مُستخدما بعضها بصورة مشوهة، ومنها:

منهج الأثر والتأثر: وهو إرجاع نشأة الظاهرة إلى مصادر خارجيّة في بيئات ثقافيّة أخرى، دون وضع أيّ منطق سابق لمفهوم الأثر والتّأثّر، وإصدار الحكم دائمًا بمجرد وجود اتّصال بين بيئتين ثقافيتين، وظهور تشابه بينهما.

وتجلى تأثير هذا المنهج عند “جولدتسيهر” في ردّ كلّ عناصر الإسلام، وعلى رأسها القرآن، إلى عناصر أخرى كاليهوديّة أو النصرانيّة أو إليهما معًا، رغم أنه صمت وتغافل عن ذكر أوجه الاختلاف العميقة بين القرآن وغيره من الكتب الأخرى.

– المنهج الفيلولوجي (1):  وقد اعتمد “جولدتسيهر” على هذا المنهج المقارن، لكن دراسة القرآن تكشف أن فكرة التطوّر والارتقاء في الخطاب القرآني فكرةٌ غير صحيحة.

منهج الشكّ والتشكيك: فقد اعتبر أن النص القرآني مضطرب (2)، وغير ثابت، لكن القرآن الكريم نزل خلال مدة (23) عاما، وتمت كتابته في زمن النبي-صلى الله عليه وسلم-، ولا يوجد فاصل زمني بين نزول الوحي وكتابة النص القرآني، على خلاف الكتب المقدسة الأخرى، والتي قد تقترب من ثمانية قرون، كما هو الحال في التوارة، فقد نزلت التوارة على نبي الله موسى-عليه السلام- في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لكنها لم تدون إلا في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد على يد “عزرا الكاتب”، وهو ما جعل النص التوراتي مفتوحا للتحريف والتغيير في رحلة انتقاله من الشفوية إلى الكتابة، ومن ثم فلا مساواة بين القرآن وبين النصوص المقدسة في الأديان الأخرى، وهو ما يجعل التشكيك في النص القرآني غير وارد.

المنهج التاريخي: ولتاريخيّة القرآن بُعدان من وجهة نظر “جولدتسيهر”، الأول: تاريخيّة القرآن من حيث بنيته، وبرأيه هو منتج بشري، وثانيهما: من حيث أحكامه وتشريعاته، وبرأيه هو استجابةً لظروف وملابسات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة معيّنة، ومع تغيّبها لم تعد هناك حاجة للنص القرآني، فكانت غايته نزع القداسة عن النصّ القرآنيّ.

المنهج الاسقاطي: ويعني إسقاط الواقع المعيش على الحوادث والوقائع التاريخيّة، أي تصوّر الذات في الحدث والواقعة التاريخيّة، ويلاحظ أن “جولدتسيهر” أسقط ذاته على الوقائع التاريخية والنصوص، وتعامل معها بمفاهيم مسبقة وتصورات مكتملة، فأسقط المفاهيم والتصورات اليهودية والنصرانية على القرآن، بما لا يتفق مع النص ومدلولاته، بهدف التشكيك في القرآن.

ومن الأساليب التي لجأ إليها “جولدتسيهر” في دراسته للقرآن الكريم: ذكر الدّليل من دون ذكر المصدر، وشرح الدّليل على غير وجهه، والاستشهاد بالشاذ والضّعيف؛ بل الموضوع في بعض الأحيان، وتحريف النّصوص عن مواضعها، وتصيّد الأدلّة لتأييد فكرة موجودة في ذهنه قبل البحث العلمي، وإهمال المصادر القرآنيّة الأصيلة والاكتفاء بدراسات المستشرقين السابقة، وتخريج الأحاديث استنادا إلى كتب التاريخ وليس إلى كتب السنة النبوية الصحيحة.


(1) – الفيلولوجيا: هي دراسة النّصوص بشكل يؤهّل لدراسة الحضارة القديمة، مع مراعاة التطوّر الإنساني فيها سياسيًّا، واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأدبيًّا، وهذا المصطلح له معانٍ مختلفة في اللغات الأوروبيّة، ففي اللغة الإنجليزيّة يعني:الدراسات التاريخية المقارنة، وفي الألمانية يعني الدراسات الأدبية المقارنة، لا سيما العالم القديم.

(2) – اضطراب النصّ وعدم ثباته تعني ورود النص على صورٍ مختلفةٍ متضاربةٍ ومتناقضةٍ لا نتمكّن من إرجاعها إلى وجه صحيح أو لا يعرف الصحيح من غيره، فعند ذلك نصف النّصّ بأنّه مضطرب ومتهافت