يُعدّ الشعور بالأمن والسلام والطمأنينة شرطاً أساساً من شروط الاستقرار الذي يعدّه علماء سنن التاريخ والاجتماع العامل الأول من بين جملة عوامل و أسس ضرورية لبناء الحضارة وإرساء قواعد التقدم الإنساني.

أما التنازع والافتراق في أيّ واقع علائقي إنساني/ مجتمعي، لا مناص من أن يفضيان إلى اختلال وزعزعة أسس الأمن والسلام والسلم والاطمئنان، والعصف بأسس الاستقرار الاجتماعي الذي يُعدُّ السبب الأول والعامل الحيوي الممهد لازدهار ونمو وتطور المجتمعات الانسانية.

وعليه يصحّ أن نجزم بأن المختلفين اختلاف التعادي والتباغض والافتراق يرتكبون جريرة فادحة في حق قيمة الأمن والسلام والوفاق والتعاون، ونحن نجد أن الإسلام نفسه مشتق من دلالة لفظة السلم والسلام والسلامة.

بل إن السلام هو أحد أسماء الله الحسنى، ودار السلام كما ورد في أكثر من موضع في القرآن الكريم هي جنة الخلد.

قال الله تعالى “لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” [ الأنعام 127 ].

ومن المقطوع به أن تعاليم الإسلام الاعتقادية والتربوية والسلوكية والحضارية تهيء المسلم منذ مراحل التنشئة الأولى لتوقير وإجلال هذه القيم، فتزرع في أعماقه وتطبع في سلوكه نزوعاً تلقائياً إلى السلام والسلم والمسالمة والمعايشة.

حتى أن كلمة السلام ومشتقاتها ذكرت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، بينما لم تُذكر كلمة الحرب ومشتقاتها إلا في ست آيات فحسب!!.

وبناءً على ذلك فإن المسلك الأرشد والأقرب إلى الحكمة والصواب، اتكاءً على هذه المعادلة، بالإضافة إلى أرضية الوحدة التي هيأها الإسلام في وجدان وضمير أتباعه ووشائج الأخوة التي أكدها بدءاً بأخوّة بني الإنسان وصعوداً إلى الأخوة في الإيمان بالله الواحد وعقيدة التوحيد، وقناعة المسلم بأن اختلاف الأجناس والمعتقدات والقناعات والرؤى إنما هو سنة من سنن الله تعالى في خلقه وفي حقيقة الاجتماع الإنساني.. أن ينأى المسلم عن الغلو والتطرف في الآراء والمعتقدات، وأن يسعى للمحافظة على القواسم المشتركة التي تعضّد وحدة الجماعة والمجتمع الذي ينتمي إليه، فلا يكون أبداً معول هدم يسعى في تدميره أو تخريبه وإراقة دماء أبنائه واستنزاف طاقته الذاتية في البناء والتطور والرقي المشروطة أصلاً بتحقّق عامل الأمن والاستقرار والسلام.

إن السلام عقيدة إسلامية وخلق إسلامي قويم، و إنّ المسلم الحق ينشد بفطرته، وأصل تكوينه السلام ويتعبد في صلاته بالسلام ويشيع السلام فيما حوله وفي محيطه الخاص والعام؛ ولقد بلغ الأمر بالإسلام -حرصاً على تثبيت هذه القيمة- أن دعا أتباعه وأرشدهم إلى عدم تمني لقاء العدو، لكن مع ضرورة التشبث بالصبر وبذل الوسع في المغالبة، والإصرار على النصر في حال اللقاء.

وذلك من باب التشديد والرغبة في إرساء دعائم السلم والسلام، كما أن الإسلام قد جعل قاعدة التواصل والدعوة هي الأصل في العلاقة مع المخالفين؛ حتى إن قارئ السيرة النبوية الشريفة تُــلفت انتباهه بقوة خصال وخلال الرقة والمسامحة والحرص على توطيد روح السلم والمؤاخاة والنأي حتى عن الألفاظ والأسماء التي توحي بنقيض تلك الخلال الإنسانية النبيلة الرقيقة.

ومن ذلك -على سبيل المثال وليس الحصر- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره مجرد كلمة “حرب” ولا يحب سماعها، و لقد علّم أصحابه قائلا: أحَبّ الأسماء إلى الله: عبدالله وعبدالرحمن، وأصدق الأسماء: حارث وهمام، وأقبح الأسماء: حرب ومرة.. وكــان العرب فــي الجاهليــة يسمـون أبناءهم حربا ومرة، فكــره للمسلميـــن أن يسـموا أبناءهم بذلك، حتى لا يتعودوا سماع كلمة “حرب”، وكفى بهذا حرصاً من الإسلام على السلام والأمن والطمأنينة.

فهذا الدين الجليل يقرّ بأن تحقّق السلم الاجتماعي شرط رئيس وعامل حاسم لتوفير الأمن والاستقرار في المجتمع، وتعليل ذلك أنه إذا فُقدت حالة السلم والوئام الداخليين أو ضعفت إلى درجة كبيرة فإن النتيجة الطبيعية لذلك تتجلى في تدهور الأمن وزعزعة الاستقرار، فتسود حالة الخصام والصراع والاحتراب، فيسعى كلّ طرف لإيقاع أكبر قدر ممكن من الأذى والضرر بالطرف الآخر!!

وفي هذه الأجواء غير الطبيعية، لا بد أن تضيع الحقوق وتُنتهك الحرمات وتُدمر المصالح العامة.

حينها تشعر كلّ جهة بأنها مهدّدة في وجودها وفي مصالحها فتندفع دون ضوابط وروادع باتجاه البطش والانتقام وزرع الفوضى في جنبات المجتمع ومؤسساته.

ومن جانب آخر ينبغي الوعي بمردود السلم الاجتماعي وآثاره الإيجابية، ففي ظله يمكن تحقيق التنمية والرخاء والازدهار، حيث يتّجه الناس صوب البذل والبناء والإنتاج والعطاء، و تتركز الاهتمامات على المصالح المشتركة، وتتعاضد الجهود والقدرات والمهارات في خدمة المجتمع، على عكس ما يحصل في حالة حدوث الخصام والصّراع وانشغال كلّ طرف بالآخر، وتغليب المصالح الفئوية الخاصة على المصلحة العامة أو المشتركة.

فعندما تختلّ منظومة السلم الاجتماعي فإن التنمية تتعثر أو تتأجل، وقد تتوقف بصورة كاملة، بل قد يصعب الحفاظ حتى على القدر الذي تحقّق منها في الواقع الماثل بالفعل، فيتداعى بناء المجتمع وينهار كيان الوطن، وتضيع مصالح الدين والأمة.

ألا ما أعظم و أجلّ دعوة الإسلام إلى الحفاظ على هذه القيم وتثبيتها بأساليب تربوية واعتقادية وسلوكية راقية، تجعل الإنسان المسلم مؤهلاً لأداء رسالة الاستخلاف والإعمار ونفع المجتمع وكل بني البشر في هذه الحياة.

والله الموفق إلى كلّ خير ورشاد.