كان البروفيسور محمد يونس، صاحب فكرة بنك الفقراء في بنغلاديش، يحادث “ستيفن كوفي” مؤلف كتابي “العادات السبع” و”العادة الثامنة”، ويقص عليه كيف انطلقت فكرة البنك من تلك الهوّة الشاسعة بين ما كان يلقيه على طلبته في الجامعة من مبادئ الاقتصاد وقوانينه، وبين ما كان الألوف يعيشونه خارج الجامعة من الجوع والفقر والاقتراب من حافة الموت.. والهوي من تلك الحافة أحياناً إلى القبر، وقد كانت بنغلاديش حينها تتعرض لمجاعةٍ ماحقة، وكان الضنك والجهد يحصدان الناس بلا هوادة.
أراد محمد يونس أن يستكشف -كإنسانٍ لا كأستاذ اقتصاد- إمكان مساهمته في إنقاذ نفس واحدة -أو أكثر- من الموت.
وذكر أنه كان طائراً.. أستاذاً جامعياً يرى الأشياء من فوق دون أن يعيشها، ويدرّس النظريات التي لا تقبل التطبيق في محيطه، ولا يخرج نباتها إلا دُولة بين الأغنياء؛ لكنه صار دودةً.. تواجه كل ما أمامها: تشمّه، تختبره، تتلمسه، ترى إن كان بوسعها فعل شيء!
وكان لتلك الجولات التي قام بها محمد يونس في القرية المجاورة لحرم الجامعة أثرها.. إذ استفز قدراته وابتدع فكرةَ “بنك الفقراء” الذي نفع الله به الملايين من الفقراء.
على الرغم من مرور بضعة عشر شهراً على قراءتي لتلك القصة، لا تزال صورتا “الطائر” و”الدودة” ماثلةً أمام عينيّ. صورة الطائر المحلّق في الجواء النقية، والأفق الفسيح.. وصورة تقابلها هي صورة الدودة الزاحفة على الأرض، تلتصق بالواقع، تتسلق حصاةً، وتتفحص هباءةً، وتشمّ رائحة نفاذةً صادرة من مصدر قريبٍ غريب.
وحاولت أن أصنّف الكتّاب وفق هذا التقسيم فتمثّل أمامي لونان من حملة الأقلام:
لون يرتدي نظارة الطائر حين يكتب، ولون آخر يرتدي نطارة الدودة! والمقارنة بين الطائر والدودة محسومة بداهةً -كما يظن الكثيرون- لصالح الطائر، لكن الذي يجبر الخاطر أن الناس أخطؤوا من قبل حين ظنوا أن الأرنب سيفوز حين يسابق السلحفاة، وأخطؤوا كذلك حين فضلوا الثريا -التي يبصرونها وحسب- على الثرى الذي عليه يمشون خطواتهم، ومنه يستخرجون قوتهم.. وقد قال المتنبي:
ولو لم يعلُ إلا ذو محلٍ***تعالى الجيش وانحطّ القتامُ
وإن كان الواقع أنه لا لزوم للمقارنة بغرض التفضيل بين الكاتب/ الدودة، والكاتب/ الطائر: فالحياة مزيج من العموم والخصوص، والتقييد والإطلاق، والأطر العريضة والتفاصيل الدقيقة، والقواعد الحاكمة والأمثلة الشارحة، والسباق بين السلحفاة والأرنب سباق غير منطقي، كما أن الصراع بين البيضة والحائط صراع غير متكافئ..
الكاتب الذي يرتدي نظارة الطائر.. هو الكاتب الذي يرتفع كثيراً عن الحاضر إلى التاريخ، وعن الواقع إلى الافتراض، وعن الملحّ العاجل إلى المهم، وعن التفاصيل إلى الكليات، وعن “العامة” إلى النخبة”، وعن السهل إلى العويص، وعن تطبيق القوانين إلى صياغتها وتفسيرها.
أما الكاتب الذي يرتدي نظارة الدودة.. فهو كاتب التفاصيل، الذي يغوص في الأشياء التي يعرفها القارئ فيخرج منها بما لا يعرفه، والذي ينظر في المألوف على نحو غير مألوف، والذي يغرق أحياناً في التفاصيل حتى يكاد يضيع الإطار، والذي يعيش الحياة اليومية بدقائقها وثوانيها، ولا يمانع أن تتعفر قدماه بتراب التفاصيل، ولا أن بتسخ ثوبه بشحوم المشكلات اليومية..
لو افترضنا أن كاتباً/ طائراً وكاتباً/دودةً ترافقا إلى مدينةٍ ما ليتعرفا إليها ويكتبا عنها؛ فإن الكاتب/ الطائر يعمد إلى أعلى قمةٍ تطل على المدينة ، أو يطل عليها من طائرة عمودية يرى منها الملامح العامة والقسمات المميزة.. وربما تمشى في أشهر الشوارع، وزار أهم المعالم.. والتقى بوالي المدينة واطلع على إرشيفها، وإحصائياتها.
أما زميلُه الكاتب/ الدودة فإنه يتجول في الأزقة والحارات، ويتذوق الكعك والشاي، ويدخل البيوت، ويجلس في المقاهي، ليرى كيف يتخاطب الناس، وكيف يعامل رب العمل صبيانه، وكيف يبلّط الناس بيوتهم، وهل يهتمون بنظافة أزقتهم.. إلى آخر ما هناك!
فإذا التقى الكاتبانِ.. جاء كل واحد منهما صاحبَه بما لم يكن يعهده، وعرّف كل منهما زميله بما لم يكن ليحيط به مهما فعل -ما دام لم يغيّر نظارته!
في المنظومة البيئية؛ وجود الدودة مهمٌ كما وجود الطائر! وفي بيئة الكتّاب؛ وجود الكاتب الذي يرتدي نظارة الطائر ضروري كوجود زميله الكاتب الذي يرتدي نظارة الدودة.. لكن العبء الأضخم يقع على القارئ الذي ينبغي أن يمتلك النظارتين معاً.. وأن يكون “ربانياً” حين يقرأ بهدف التعلم.. والربانيون من المعلمين هم الذين يبدؤون بصغار المسائل قبل كبارها.. ويأتون العلوم من أبوابها.. وقد قالت التجارب الكثيرة: إن القارئ حين يشرع في القراءة في مجال معرفي ما، متجاوزاً مبدأ التدرج؛ سيكون عرضةً لإنهاك عضلات المخ، وعرضةً للملل والصدود، وسوء الفهم، وأشياء أخرى!