ينظر كثير من الناس إلى المرض نظرة قاصرة، فيراه البعض دليلاً على غضب الله، ويراه آخرون انتقاماً من هذا المريض، والحق أن المرض ابتلاء من الله عز وجل للإنسان المسلم، لينظر أيصبر على قدر الله ويرضى به، فيرضى الله عنه، ويكتب له الأجر في الدنيا والفوز في الآخرة؟ أم يجزع وييأس ويقنط من رحمة الله فيخسر ثواب الدنيا، ويفوته رضا مولاه في الآخرة؟

فمن فضل الله علينا أن ديننا لم يترك لنا شيئا إلا وحدثنا عنه أو أعطانا مفاتيح العلم به، وكثيرا ما نخطئ في أمور كثيرة حين ننظر إلى الأسباب المادية المحسوسة ونحتكم إليها دونما أن نحتكم للمعايير الإيمانية التي هي أقوى سلاح في يد المسلم، فمن صميم عقيدتنا أن الدواء لا يشفي والطبيب لا يشفي.

ولكن الشافي الحقيقي الذي بيده الشفاء هو الله تبارك وتعالى، وما الطبيب والدواء إلا مجرد أسباب نأخذ بها، أمرنا بها رسولنا الكريم، ونحن مسئولون أمام الله عن تركها، أما النتيجة الحقيقة فهي بيد الله تعالى.

أرحم بنا منا

لقد أخبرنا النبي أن الذي أنزل الداء -أي المرض- هو الله جل وعلا. ومَنْ هو الله؟ إنه الرحمن بعباده، الرحيم بالضعفاء سبحانه وتعالى، وهو لا يريد العذاب لعباده سبحانه.

رأى رسول الله امرأة من السبايا ملصقة ولدها ببطنها فقال لأصحابه: “أرأيتم هذه مضيعة ولدها؟” قالوا لا يا رسول الله فقال: “لَلَّهُ أرحمُ بعبده من هذه على ولدها”!!

أرأيت أخي المسلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من الأم على ولدها؛ لذلك أبشر يا من ابتليت فسوف تجد من رحمة الله وعدله ما يرضيك، فإنما أنزل بك هذا المرض ليُقربَك لا ليعذبك، أصابك به ليطهرك ويصطفيك، لا ليبعدك ويقليك، ولك في أنبياء الله وأصفيائه قدوة حسنة فهم أشد الناس بلاء.

لقد أخبرتنا السنة النبوية بأن لكل داءٍ دواء، ولكل مرض شفاء، ولا يوجد على وجه الأرض مرض ظهر قديما أو حديثا، إلا وله علاج ودواء بصريح حديث رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

فربما يقول المريض قد أصابني المرض فرضيت وسلمت لأمر الله تعالى، وعلمت أحاديث النبي وإخبارَه فيها بأن لكل مرض علاجا وشفاء ففرحت واستبشرت، ولكني حزين لِمَا أصابني من أمراض؛ لأن هذا معناه أن الله تعالى غاضب مني، ولا يحبني وأنني هيِّن على الله تعالى، فلذلك أقعدني بالمرض وأذلني بالداء حتى صرت أشعر بالحرج بين الناس حين يرونني طريحَ الفراش أو يسمعون بما أصابني من أوجاع، فلعلهم يشمتون فيَّ ويتكلمون عليَّ.

فلتطرح أيها المبتلى هذه الوسوسة الشيطانية بعيدا، فقد أراد الشيطان أن يوقع بينك وبين ربك جل وعلا، وأن يعميك عن الحكمة من هذا البلاء، يقول فيما يرويه عن رب العالمين: “إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم… مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال تعالى: “أما علمْتَ أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده…”[رواه مسلم[.

فلاحظ فيها أن الله تعالى قد شرفك تشريفاً عظيماً حينما جعلك حال مرضك كأنه هو سبحانه المريض فهذا تشريف ومواساة لك، وتأَمَّلْ أيضا قوله تعالى: “لو عدته لوجدتني عنده” تجد أن الله سبحانه يرفع من شأنك حال مرضك، ويعلم من يزورك أنه سيجد عندك المولى الجليل سبحانه وتعالى، وما ذاك الشرف والفضل لك إلا لأنك مريض، إذن من أراد أن يزور الله رب العالمين في الدنيا فليسرع لزيارتك أيها المريض.

البلاء عنوان المحبة

ومن لطف الله عز وجل ورحمته أنه لا يغلق بابا من أبواب الخير إلا فتح لصاحبه أبوابا. فعلاوة على ما يكتب للمرضى من الأجر جزاء ما أصابهم من شدة ومرض وصبرهم عليه، لا يحرمهم ثواب ما اعتادوا فعله من الطاعات؛ إذا قصروا عنها بسبب المرض.

فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : “إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما” [رواه البخاري]، فأي كرم بعد هذا الكرم، وأي فضل أوسع من فضل الكريم المتعال؟

إن البلاء عنوان المحبة.. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط” [رواه الترمذي]. وقال : “إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا” [رواه الترمذي].

ومن تأمل سير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام -وهم من أحب الخلق إلى الله- وجدهم قد واجهوا الكثير من البلاء والشدة والمرض.

يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 157]. الله أكبر.. أي فضل بعد صلوات الرب ورحمته وهداه؟.

وعندما دخل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- على الرسول الله وهو يوعك، قال: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال : “أجل، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم..” [متفق عليه]، وسأله سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: أي الناس أشد بلاء؟ قال : “أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسن دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة” [رواه الترمذي[.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله : “يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقارض” [رواه الترمذي[.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة” [رواه الترمذي[.

وأتت امرأة إلى النبي فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، فقال: “إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك”، فقالت: أصبر.. [متفق عليه].

يكفر الذنوب

لما نزل قول الملك تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} اشتد ذلك على الصحابة –ومعنى ذلك أن على كل سيئة عقاب– حتى قال الصديق كيف الصلاح بعد هذه الآية يا رسول الله؟ فقال موضحا لفضل المرض وفائدته: “غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرضُ؟ أَلسْتَ تَنْصَبُ أَلَسْتَ؟ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللأْوَاءُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ”[رواه أحمد]، فقد بين أن المرض من الأسباب التي يمحو الله بها السوء والسيئات.

ويقول : “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه” [رواه البخاري].

فإذا كانت الشوكة وهي أدنى أنواع المرض تكفر الخطايا فمن باب أولى كل مرض فوقها يكفر الخطايا، وهذا مسلك الشرع الحنيف إذا نبه على الأدنى فهو تنبيه على الأعلى من باب أولى.

ولا بد للعسر من يسر، فقد قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6]. وهذه سنة الله تعالى في خلقه.. ما جعل عسرا إلا جعل بعده يسرا، والأمراض مهما طالت وعظمت لا بد لأيامها أن تنتهي، ولا بد لساعاتها- بإذن الله- أن تنجلي يقول الشاعر:

ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى   

ذرعا وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها  

فرجت وكان يظنها لا تفرج

قال وهب بن منبه –رحمه الله-: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.

عجِّل التوبة

لا يقدر نعم الله تعالى إلا من فقدها، وكأني بك أيها المريض، وقد أنهك المرض جسدك، وأذهب السقم فرحك، أدركت قوله : “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ” [رواه البخاري].

فالصحة من أَجَلِّ النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا، لا يقدرها إلا المرضى، وهكذا فكم من النعم قد غفلنا عنها، وكم من النعم قد قصرنا بواجب شكرها، وأجلّ تلك النعم وأعظمها نعمة الإيمان والهداية، فكم من الناس قد غبنها، فلم يقوموا بواجب شكرها، وتكاسلوا عن الاستقامة عليها.

وحين تلوح لك بوادر الشفاء.. وتسعد ببدء زوال البلاء، فلتقدر لهذه النعم قدرها، ولتعرف فضل وكرم منعمها، وتدبر حالك عند فقدها أو نقصها، فأعلن بذلك توبة نصوحا من تقصيرك في شكر كل نعمة، وتفريطك في استعمالها فيما يرضي ذا الفضل والمنة.

بل اجعل توبتك الآن.. نعم الآن عل هذه التوبة أن تكون سببا في رفع ما أنت فيه من كربة، ودفع ما تعانيه من شدة، قال سيدنا علي- رضي الله عنه-: “ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.. وإن لم يكتب لك من مرضك شفاء، فنعم ما يختم العمر به توبة صادقة”.

الرضا والتفاؤل

من ينظر إلى نعيم الآخرة يهون عليه عذاب الدنيا، ومن يعلم أن الله يحبه وهو أقرب ما يكون منه حال مرضه لن ييأس أو يحزن أبداً، وفي ذلك علاج ودواء؛ لأن الحزن واليأس يُزيدان المرض ويجعلان مقاومة الجسم للأمراض تقل بل تنهار وتنهزم عن مقاومة المرض، وهذا ما أثبته الطب حديثا.

وهناك بعض الأطباء- سامحهم الله- ينفرون المريض من الشفاء وييئسونه تماما، وهذا خطأ فادح يقعون فيه ومخالف تماما لهدي رسولنا حيث قال: “بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا”.

فالبشر مدعاة لجلب الفرج، فكم من مريض استطاع مواجهة أفدح الأمراض بوجه بش ونفس مطمئنة، وكم من مريض خارت قواه لحزنه ويأسه ربما من مجرد الشك أو الوسوسة وخوف الهلاك، أو تقرير متسرع من طبيب غير ماهر.

ولا بد أن نعلم أن عقيدتنا كمسلمين في المرض مختلفة عن نظرة الآخرين له، حيث إنه يشيع في بلاد الشرق والغرب أن هناك أمراضا لا شفاء لها، وهذا ما يخالف عقيدتنا؛ لأن رسولنا قال:”… فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً…” [رواه الحاكم] وصدق من قال:

لكل داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ بِه         

إلا الحماقةَ أعْيَتْ مَنْ يُداوِيهَا

فلا بد للمسلم أن يستبشر في كل أحواله، معلنا رضاه بقسمة مولاه، متخذا من بلائه مطية لبلوغ مرماه، فعجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرًا، كما أخبر رسول الله عن حال المؤمن الصابر الراضي بقضاء الله تعالى. وقديما قال الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة في معلقته:

فاقنعْ بما كتَبَ المَليكُ فإنّما       

قَسَمَ الخلائقَ بيننا علاّمُها


جمال عبدالناصر