لطالما نسمع شكاوى كثيرة من ثورة المعلومات والاتصالات، التي باتت- كما يراها كثيرون- تُشتِّت الأذهان، وتضيِّع الأوقات، وتصرف المرء عن أمور كثيرة، لاسيما فيما يتصل بالعلاقات الإنسانية الحية؛ التي تحولت إلى علاقات افتراضية في الفضاء الإلكتروني والعوالم الذكية.
ونستطيع أن نقول ابتداء إن هذه الشكاوى لها مصداقيتها، وهي من الوضوح والثبوت بما لا تحتاج معه إلى دليل!
غير أننا من المهم أن نوضح أن هذه الشكاوى- وإنْ بدرجات متفاوتة- تردَّدتْ من قبل، ورأينها مع ظهور كل طفرة في عالم المعلومات والاتصالات.. فحين بدأ البث الإذاعي، صار الناس يشتكون من الانصراف عن الكتاب، والانشغال بالإذاعة كوسيلة للتعلُّم والترفيه.. ثم كبرت الشكوى مع ظهور التلفزيون؛ الذي رآه البعض يهدِّد عرش الكتاب، ببرامجه المتنوعة، وبقدرته على إيصال المعلومات، وعلى جذب المتلقي لساعات طوال.
كما أصبحت هذه الوسائل تقتطع من الوقت الذي كان مخصَّصًا للتزاور بين الأقارب والمعارف والعائلات والجيران، بعدما رأوا في التلفاز مؤنسًا، وشاغلاً للوقت!
ثم جاء عصر الفضائيات في تسعينيات القرن الماضي، ليفتح على المتلقي عددًا غير محدود من القنوات والبرامج، وفي شتى المجالات، وبمختلف اللغات.. حتى صرنا أمام طوفان يسبِّب الحيرة في اختيار ما يستحق المتابعة، من كثرة تزاحم البرامج.. وكان لهذا أيضًا تأثيره على المستوى المعرفي والاجتماعي!
ثم في أوائل الألفية الثالثة صرنًا وجهًا لوجه أمام طوفان أكبر من ثورة المعلومات والاتصالات، بحيث أصبح ما كنا نظنه من قبل “طوفانًا” مجردَ مقدماتٍ وممهِّدات، لا تكاد تمثِّل شيئًا أمام العالم الجديد..
أصحبت “الثورة الرقمية”- بمنصاتها ونوافذها غير المحدودة- تمثِّل عوالمَ لا متناهية تُغرق المتلقي بالمعلومات والأخبار والخدمات، وتلاحقه أينما كان حتى يأوي إلى فراشه وقد أرهقته المتابعة، بعد سباق لا يكاد يلتقط فيه أنفاسَه..
ولم تعد مواقع التواصل الاجتماعي كما كان يقال عنها “عالَمًا افتراضيًّا”، وإنما صارت كأنها هي الأصل؛ في التواصل والمعلومات والخدمات..
وانتقلت شرائح كبيرة، بل الجمهور كله تقريبًا، من موقع “المتلقي” و”المشاهِد” إلى موقع “المرسِل” و”المشارِك”.. مع ما في ذلك من سيولة في الإرسال، وخفة في المضمون، وسطحية في التناول، وعدم تدقيق في الأخبار، وابتعاد عن أدب الحوار والنقاش.. فضلاً عن الانعزالية عن المجتمع والانفصام عنه، والاكتفاء بالمخالطة من وراء حجاب (أي من خلف الشاشة، وعبر أزرار الكيبورد!)
وفيما يتصل بالمستوى المعرفي، فقد فتحت ثورة الاتصالات والمعلومات نوافذَ جديدة وكثيرة، لكن لها خصائص مغايرة للنوافذ التقليدية في المعرفة، والتي أهمها الكتاب.. فأصبحنا في قلب “عصر الصورة” و”ثقافة الصورة”؛ بما يعني ذلك من: الرسالة الموجزة لدرجة عدم الإشباع، والثقافة البصرية أو السمعية التي تكوِّن “قشرة ثقافية” ولا توجِد عمقًا معرفيًّا ممتد الجذور.. وبالتالى، بات إصدار الأحكام وإطلاق التقييمات أمرًا سهلاً، بل له أضواء وإغراءات تستدعيها متابعات المعجبين، وعدد “اللايكات”، والرغبة في متابعة الحدث والتعليق عليه، لحظة بلحظة..
نعم، كل هذه الهموم والشكاوى- التي عبّرتُ عن جانب منها- أتفق معها، وأعاني منها، على المستوى الشخصي والمجتمعي.. لكن ذلك يستدعي أن نذكّر بعدة نقاط:
– أن هذه الحالة المعرفية والتواصلية غير المسبوقة، من الصعب الانعزال عنها.. لكن يمكن توظيفها؛ من خلال حسن إدارة الذات وتنظيم الوقت، وإدراك أن لكل ظاهرة سلبيات وإيجابيات، وعلينا أن نقلّل الأُولى ونكثِّر الثانية.
– أن الأسرة ينبغي أن تستعيد دورها في التوجيه، ولا تستسلم لما يشبه “العصيان” من الأجيال الناشئة؛ التي ترى في نفسها أهلاً لإرسال المعلومات وإطلاق الأحكام.. وبالتالي كأنها شبَّت مبكرًا عن الطوق! بل ربما صارت في موقع الساخط على الجيل “القديم”..!
– أن نعمل على تحقيق التوازن بين ثقافة الكلمة المقرؤة/ الكتاب، والكلمة المرئية/ بنوافذها العديدة.. ونعلم أن لكل منهما مميزات، ومن المهم أن نستفيد من الأمرين معًا.. ويمكن أن نعطي الأولوية في التثقيف: للكتاب، وفي الأخبار والتواصل: لنوافذ الكلمة المرئية والتفاعلية. وكم أكد مفكرون وباحثون على أهمية “الكتاب” كوسيلة أساسية في التكوين المعرفي، وفي تشكيل العقل الواعي النقدي؛ فالكتاب هو ما يسمح بتتبع الظواهر، والإحاطة بجوانبها التاريخية وأبعادها المتعددة المتشابكة، وبالقراءة المتفحصة المتأنية.. وهذه شروط أساسية في تكوين الوعي المطلوب، المفتقَد في واقعنا للأسف!
– أن نفهم أن ثورة المعلومات والاتصالات كما أنها تمثِّل “تحديًّا” معرفيًّا واجتماعيًّا، فإنها أيضًا تمثل “فرصة” على هذين الجانبين.. ففي الجانب المعرفي، صارت تفرض على منتجي المعرفة نمطًا جديدًا يراعي السهولة والوضوح والإيجاز؛ وهذا لاشك مفيد في جوانب معرفية كثيرة.. أما على الجانب الاجتماعي فقد يسَّرت التواصلَ ووسَّعت آفاقه؛ بحيث صار بإمكان أيّ إنسان أن يتواصل مع عدد غير محدود، ومن أماكن ربما لن تطأها قدماه يومًا..
والتحدي هو أن نجعل هذا المحتوى المعرفي واضحًا وسهلاً، مع التثبت وشيء من العمق.. وأن يكون تواصلنا عَبْر نوافذها إضافةً للتواصل المجتمعي الحقيقي، لا بديلاً عنه.