قد يكون من الطبيعي أن ينشغل المرء بما يقابله من أحداث، وما يعرض له من نوازل؛ سواء من ناحية تفسيرها أو الحكم عليها؛ لأن من الضروري أن تتأثر حياة المرء بالتفسير الذي يتبناه أو الحكم الذي يطلقه.

ومن هنا، لا نستطيع أن نمنع هذه العملية التي نشاهدها كلما جدّ جديد أو حدثت حادثة؛ فتكثر التفاسير وتنطلق الأحكام.. غاية ما نريده، أن علينا أن نتبين معيارًا ننظر إليه، أو بوصلة نتوجه بها؛ حتى لا نتوه في الدروب يمنة ولا يسرة.

وإذا كان انشغال المرء بما يقابله، أمرًا طبيعيًّا، فمن الطبيعي أيضًا أن ينطلق المرء في هذا الانشغال من معتقده الذي رسخ عنده قبل حدوث هذه النازلة، أو وقوع هذا الطارئ.. سواء أكان هذا المعتقد دينًا يدين به المرء، أم رأيًا تكوَّن لديه على نحو ثابت..

لكن البعض، وبسبب موقفه الخاص من الدين، فإنه بمجرد أن يسمع رأيًا يستند للدين في حادثة ما، فإنه يبادر للمطالبة بتنحية الدين عن هذه الحادثة أو تلك، وقد يتخفّى في مطالبته هذه تحت ثوب الحرص على الدين نفسه! ولو أنصف، لعلم أن لكل امرئ الحق في أن ينطلق من القاعدة التي يرتئيها.. وكما أن لأحدهم أن يستند في التفسير والتحليل، لعقله هو، أو لمنظوره الخاص؛ فللآخر أن ينطلق تجاه ذلك من الدين الذي يشكّل له قناعاته واتجاهاته.

لكننا هنا، ينبغي أن نشير إلى أن الاستناد إلى الدين في التفسير والتحليل، هو أمر علمي، بجانب كونه عاطفة.. وأمر تحكمه المعايير والضوابط- أو ينبغي ذلك- كما تمليه القناعات الذاتية.. وإن أي خلل في ذلك قد يسيء للدين نفسه، على خلاف ما يريده المرء من تعظيم مكانة الدين، وترسيخ وجوده.

ولهذا، تنبغي مراعاة الحذر في هذا الصدد. ولعل ذلك هو ما جعل النبيَّ صلى الله عليه وسلم “إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا علَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ” يقول له ضمن وصاياه: “وإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، فلا تُنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِكَ، فإنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فيهم أَمْ لَا” (صحيح مسلم، عن بريدة بن الحصيب الأسلمي).

وبرؤية أوسع، فلهذا السبب أيضًا- أي لضبط التفسير والتحليل من منظور الدين- نشأت العلوم الإسلامية، وقُعِّدت القواعد، لاسيما علم “أًصول الفقه” الذي يُعنى بدرجة أساسية بتوفير مفاتيح وقواعد لفهم النصوص، ولتفسير واستنباط الأحكام منها.. كما أن لكل علم من العلوم قواعده وأصوله التي تضبط مساره، وتحقق له الغاية المرجوة منه..

فليس الدين شأنًا مستباحًا، ولا هو بالأمر الهيّن حتى يُترك دون ضوابط تحفظ له طبيعته ومعالمه، وتعين المتصدي لذلك على حسن الفهم والبلاغ.

والمسلم يعتنق دينًا من خصائصه أنه ينظم له شئونه الفردية والجماعية، وأحواله الخاصة والعامة، ويجعله يمد بصره خارج نطاق الدنيا إلى الآخرة.. مما يوفر له- أي للمسلم- “رؤية كلية” ينطلق منها، و”منظورًا خاصًّا” يتميز به.

ومن الوارد، بل من الثابت، أن هذه الرؤية وهذا المنظور سيختلفان اختلافًا كبيرًا عن غيرهما من رُؤى ومناظير..

فمن يؤمن بوجود الله تعالى، ويعتقد فيه كل كمال، ويقرّ له بكل تفرّد وهيمنة وقيومية: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (الأعراف: 54)، سيختلف في منطلقاته ورُؤاه عمن لا يؤمن بوجود إله أصلاً، أو يؤمن بوجود إله ولكن على نحو مغاير؛ كمن يزعم أن الله خلق الكون ثم تركه يعمل بذاته، مثل صانع الساعة الذي يصنعها ويتركها لا يتدخل في عملها ولا يسيطر على تروسها!

فالمسلم له “نموذجه المعرفي”، المختلف بالضرورة عن غيره من نماذج وُرؤى.

والأمر هكذا، فلا يصح حين ينطلق المسلم إزاء حادثة ما، من منظوره ونموذجه الخاص، أن يُعتَرض عليه.. لأن المعترِض له هو الآخر نموذجه الذي يختلف معه المسلم، ومع ذلك يعترف المسلمُ حياله بالاختلاف والتعدد.. فقد شاء الله تعالى أن يترك للناس حرية الفعل والتوجه، بما يترتب عليها من التنوع والتعدد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118).

وإذا أردنا أمثلة أكثر توضيحًا، على اختلاف أصحاب المنظور الديني عن غيرهم، في تفسير الأحداث والنوازل؛ فنشير إلى موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين اهتزت الأرض بالمدينة، فقال للناس: “ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده إن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا” (البيهقي في سننه).

مع أن البعض قد يُرجع أمر الزلازل وما شابهها إلى اختلال في الطبيعة، رافضًا أيٍ تفسير ديني (غيبي) لها!

ونشير أيضًا إلى قول الفضيل بن عياض رضي الله عنه: إني لأعصي الله فأعرف ذلك من خلق حماري وخادمي (ابن عساكر في “تاريخ دمشق”).

وقد يقال: ما دخل المعصية في خلق الزوجة! لكن الفضيل رضي الله عنه، يعتقد أن للمعصية شؤمًا، وقد يعجَّل هذا الشؤم ولا يؤخَّر، وأنه قد جرب فوجده يظهر على وجه السرعة في دائرته القريبة منه، أي في خُلق خادمه ودابته..

فمن لا يؤمن بالله تعالى، أو لا يدرك- على أي نحو كان- ما للطاعة من بركة وما للمعصية من شؤم، لن يدرك جيدًا مغزى كلام الفضيل رضي الله عنه..

لكننا هنا، أي في تقرير مشروعية أن ينطلق المسلم من منظوره الديني، ننبه إلى أمرين حاكمين:

الأول: أن المنظور الديني، أو حتى المنظور العلماني أو أي منظور آخر، لا يُخاطَب به إلا المؤمنون به، المُقرّون له.. ولا يخاطب به مَن يرفضه.

ولهذا، فحين نريد أن نخاطب أحدهم بالإسلام فإننا نلجأ لحديث العقل والبدهيات؛ لكن إذا خاطبنا مسلمًا بالأوامر والنواهي فإننا ننطلق معه من: قال الله تعالى، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.

فنحن في المنظور الديني للأحداث والنوازل لا يصح أن نخاطب به إلا المؤمنين به.. وتبقى لغة الخطاب لغير هؤلاء قائمة على اللغة المشتركة التي يتفهمها الناس جميعًا، ويعترفون بها؛ أعني لغة العقل ولغة المصالح والمنافع.

فتفسير ما يقع للناس من الأوبة والزلازل وغيرهما، تفسيرًا إيمانيًّا، لا يُعقَل أن يُخاطَب به غير المؤمنين أصلاً.. فإن ذلك لن يترك لديهم إلا سخرية من الدين ونفورًا منه.. ولا سبيل إليهم إلا البدء بتقرير أصل العقيدة الإيمانية أولاً، وهو وجود الله تعالى وما يتصف به من قدرة وحكمة وهيمنة، وما يريده من خَلْقه من طاعة ومحبة.. فإذا تم تقرير ذلك، فما أيسر أن يشار إلى ما يترتب على هذا الأصل من أن لكل أمر في الوجود- اتصل بالإنسان أو الطبيعة- حكمة وغاية، وأن ما يصيب الإنسانَ- حتى ما يحمل له مكروهًا في الظاهر- إما أن يكون رفعًا لدرجته أو تكفيرًا لخطاياه، متى استقبل ذلك برضا وسكينة وتسليم.

ثانيًا: أن التفسير الإيماني لا يمنع أبدًا من اتخاذ الأسباب، والجدِّ في البحث عنها وكشف أسرارها؛ وإلا كان ذلك تواكلاً لا توكلاً.. وفي هذا الأمر مجال فسيح لتضافر جهود بني الإنسان على اختلاف معتقداتهم ونماذجهم المعرفية..

كما أن إحراز قصب السبق في اتخاذ الأسباب والكشف عنها، يُعد مدخلاً للتعريف بالمنظور الديني، وإثبات أن الاعتقاد الديني ليس مدعاة للتخلف الحضاري، ولا ينافي تعمير الكون.. بل إن اتخاذ الأسبابِ أحدُ تجليات الاعتقاد الديني، لأن الله تعالى أمر بالسير في الأرض والاستفادة من خيراته المبثوثة فيها: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15).

وهنا، يتضح الفارق الأساسي بين المنظور الإسلامي وغيره مما دخل عليه التحريف، وكان سببًا في شقاء الإنسان والإزراء بحياته، والقطيعة بينه وبين التمتع بما أحل الله من طيبات؛ حتى أصبح البعض يعتبر من علامات التقوى أن الماء لم يمس جسده لسنوات!!

إذن، قضية المنظور الديني في التفسير والتحليل حق مشروع لأصحاب هذا المنظور الديني.. ولا يخاطَب بها غير المؤمنين.. كما أنها لا تنافي اتخاذ الأسباب والجد في طلبها والكشف عنها.. فالإسلام دين متميز فيما يرسيه من أصول للإيمان، ومن قواعد للسلوك، ومن قيم للحياة.. وعلينا أن نحسن فهم ذلك، ونبدع في تجليته وتبليغه..