إنَّ مسألة هداية الله تعالى للعبد وإضلاله له هي قلب أبواب القدر ومسائله، وإنَّ أفضل ما يقدِّره الله تعالى للعبد هو الهدى؛ فهو من أعظم النِّعم والعطايا، وأعظم ما يبتليه به ويقدِّره عليه هو الضَّلال، وقد اتّفقت رسل الله جميعًا، وكذلك كتبه المنزلة على أن الله يهدي من يشاء، ويضلُّ من يشاء، فالهدى والضَّلال بيده، وطلب الهداية والسعي إليها من طلب العبد وكسبه.
وتتلخص مراتب الهداية في كتاب الله عزَّ وجل بأربعة مراتب، وهي:
1- الهداية العامة :
هي هداية كل مخلوق لما يصلح أمور معاشه، وهي أعم المراتب، وهي شاملة لجميع المخلوقات ودليلها قوله تعالى: ” قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” (طه : 50). وهذه الهداية تعم جميع المخلوقات، وتعم سائر أمور المعاش من نكاح، وطعام وشراب، وجميع السلوك التي يهدي الله تعالى مخلوقاته لعملها من غير تعليم سابق كهداية النمل إلى تنظيم طرق المعاش وخزن الطعام وغير ذلك مما يحار العقل البشري فيه فسبحان من خلق فسوى ثم قدر فهدى.
2- هداية الإرشاد والدعوة والبيان :
هي أخص من التي قبلها حيث إنها مختصة بالمكلفين من الخلق، والمراد بها دعوة الخلق وبيان الحق لهم، وهي حجة الله على خلقه، فلا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب. قال تعالى: “رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا” (النساء : 165) . وقال تعالى: ” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ” (يونس : 147) .وقال تعالى: ” وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ” (البلد : 10) . وقال تعالى: ” وَمَاكُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” (الإسراء : 15) .
وقال تعالى: “كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ” (الملك : 8 ـ 9). وهذه الهداية هي التي أثبتها الله عز وجل لنبيه ﷺ في قوله تعالى: “وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (الشورى : 52) . وهي ثابتة من بعده للعلماء، والدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهي مرتبة عامة يشترك فيها الناس جميعاً، ولكنها لا يلزم عنها هداية التوفيق واتباع الحق، فكثير من الذين أرسل إليهم الرسل وأنزلت عليهم الكتب، لم يؤمنوا وآثروا طرق الغواية ” وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ” (النمل : 14) أي جحدوا بالآيات بعد تيقنهم من صحتها وهذا النوع من الهداية عام للمؤمن والكافر.
وحجة الله قائمة بهذه الهداية بعدة أمور وهي:
– إرسال الرسل.
– إنزال الكتب، بما فيها من الحق والبيان.
– البيان بالآيات الكونية والنظر في الآفاق ، قال تعالى: ” قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُعَن قَوْمٍ لاَّيُؤْمِنُونَ” (يونس : 101) .
– بيان الصراط المستقيم، وإقامة أسباب الهداية، باطناً وظاهراً، ومن لم تكتمل عنده هذه الأسباب لصغر أو لزوال عقل أو نحو ذلك فهؤلاء رفع عنهم التكليف، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما في وسعهم ودليل هذه المرتبة من سورة يونس ـ عليه السلام ـ في قوله تعالى: “وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (يونس : 25) ، فاشتملت هذه الآية الكريمة على هداية البيان والإرشاد في قوله تعالى: ” وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ”، وعلى الهداية الخاصة وهي هداية التوفيق والإلهام في قوله تعالى: ” وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ” (يونس : 13). وقال تعالى: ” ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ”(يونس : 74) نفي لهداية التوفيق عنهم لظلمهم، وهذا كما في قوله تعالى: ” وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” (فصلت : 17). فهداهم في الهداية الأولى هداية البيان والإرشاد فأعرضوا عنها لم يقبلوها فعاقبهم الله تعالى بالضلال جزاء إعراضهم وردهم الحق.
3- هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل:
لا يقدر على هذه الهداية إلا الله سبحانه وتعالى، فمن شاء هدايته اهتدى، ومن شاء ضلاله ضل، وهي أخص مما قبلها إذ هي خاصة للمهتدين من المكلفين، وهي حتمية الوقوع وهي التي نفاها الله تعالى عن رسوله في قوله تعالى: ” إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (القصص : 56) . وقال تعالى: ” مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (الأنعام : 39) . وقال تعالى: ” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (إبراهيم : 4). وقال تعالى: ” وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” (يونس : 19). وقال تعالى: ” وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِالسَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (يونس : 25). وقال تعالى: ” كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ” (يونس : 33).
والواقع أن استقراء النصوص القرآنية يكشف أن هذه الهداية وما يقابلها من الإضلال ليستا في الإنسان ابتداء وخلقه، بل هما نتائج لمقدمات، ومسببات لأسباب، فكما جعل الله تعالى الطعام سبباً في الغذاء والماء سبباً للري، والسكين ينتج عنه القطع والنار تسبب الحريق، فكذلك جعل أسباباً توصل إلى الهداية وأسباباً تقود إلى الضلال.
فالهداية إنما هي ثمار العمل الصالح، والضلال إنما هو نتاج عمل قبيح وإسناد الهداية لله من حيث إنه وضع نظام الأسباب والمسببات لا أنه أجبر الإنسان على الضلال والهداية وهذا المعنى واضح جداً في الآيات القرآنية مثل: قوله تعالى:” وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ” (الرعد: 27) . وقوله تعالى:” وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” (العنكبوت: 69) . وقوله تعالى:” وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ” (محمد: 17). فهداية الله للناس بمعنى لطفه بهم وتوفيقهم للعمل الصالح إنّما هي ثمرة جهاد للنفس، وإنابة إلى الله واستمساك بإرشاده ووحيه.
4- الهداية إلى طريق الجنة:
تكون هذه الهداية في الآخرة بعد الحساب والجزاء ودليلها: قوله تعالى:” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ” (يونس: 9) . وقال تعالى:” وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ” (محمد: 4، 5) ، وهذه الهداية حاصلة لهم بعد قتلهم، فدل على أن المراد بها هداية إلى طريق الجنة على القول الراجح.
مراجع البحث:
د. علي محمد محمد الصّلابيّ، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت، ص (101: 104).
د. أحمد محمد جلي، العقيدة الإسلامية، دار الكتاب الجامعي، العين، 2010م ، ص 382 – 383.
ابن القيم الجوزية، شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، دار التراث ، القاهرة ، ص 117- 129.
قذلة بنت محمد القحطاني، أصول الاعتقاد في سورة يونس، دار طويق للنشر والتوزيع، ص 508 – 510 – 512