“يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك”(1)، مقام الألوهية لا يُعرف، إلا إذا عرف الإنسان نفسه، فإذا حل الجهل مكان المعرفة، تنكر الإنسان لخالقه سبحانه وتعالى، ولعل تلك هي إحدى الأزمات الكبرى والمعقدة للإنسان المعاصر، الذي يعاني من جهل بالمقامين، فلجأ إلى ذاته ليقدسها، يقول العالم الشهير “ألبرت أينشتين”: “الإنسان هو جزء من الكل الذي نطلق عليه الكون، وهو جزء محدود في الزمان والمكان، إنه يختبر نفسه وأفكاره وشعوره كشيء منفصل عن البقية، وهذا نوع من الوهم البصري لوعيه؛ وهذا الوهم هو نوع من السجن”. وفي محاولة لفهم هذا السجن الذي حصر الإنسان فيه ذاته، يأتي كتاب “الهيومانية: دراسة تحليلية نقدية للأسس والجذور” تأليف محمد هادي طلعتي،(2) ليتناول في ثمانية فصول، مفهوما فضفاضا، هو “الهيومانية” أو “الإنسانوية” من حيث النشأة والتطور، والأبعاد التاريخية والفلسفية، والرؤى النقدية.

“الإنسانوية” رغم مقولاتها الجذابة والدعاية المثارة حولها، إلا أنها تفصل الإنسان عن الكون، وتُهمل أسئلته الوجودية الكبرى، لتؤكد مركزية المعنى الأرضي والدنيوي للوجود الإنساني، لهذا كان الكثير من تجلياتها المعاصرة مقرونا بالعلمانية والإلحاد، وكما قال أحد فلاسفتها ريموند تاليس Raymond Tallis فإن “الإنسانية، بكل مزاياها، لا تزال تفتقر إلى فلسفة يمكنها التنافس بعمق مع المعتقدات الدينية التي تهدف إلى إزاحتها”، فهي تفتقر إلى العمق والوضوح، ولا تتعاطى مع تطلعات الإنسان الروحية.

رحلة المفهوم

مفهوم “الإنسانوية” أو “الهيومانية” من المفردات المبتكرة في القرن التاسع عشر الميلادي، وربما كان الألمان هم أول من صكوا مصطلح  Humanismus عام 1808، في إشارة إلى الأدبيات اليونانية واللاتينية القديمة، وكانت تلك الأدبيات تستخدم الكلمة في إشارة للجوانب الأخلاقية، وتعني حب الناس، لكن تطور المصطلح، بعد ذلك، ليشير إلى العلوم الإنسانية.

ومع القرن التاسع عشر ابتعد مفهوم “الهيومانية” عن استخداماته القديمة، وأصبح مفهوما كليا وعاما يعبر عن نوع من الانتماء الخاص للإنسان، لذا تعددت المدارس التي تنظر إليه، وتتعاطي معه تبعا لرؤاها الفلسفية، فأصبحنا أمام ما يمكن أن نسميه “إنسانويات” يصعب تجميعها في مفهوم واحد، وحينما أصبح الإنسان معيارا للتفكير، استغلت العلمانية هذا التحول، فظهر مفهوم “الإنسانوية العلمانية” التي سعت لاستيعاب جميع أبعاد الحياة الإنسانية.

وقد ظهرت اتجاهات في عصر النهضة الأوروبي لإضفاء الصبغة الدينية على دور الإنسان في الحياة الدنيوية اليومية، وبرروا ذلك بأن الدين يتعرض للأمور التي تهتم بالحياة الدنيوية للإنسان، فطلب المصلح الديني “مارتن لوثر” جميع المسيحيين أن يكونوا قساوسة، وهي رؤية تكررت عند آخرين مثل “جون كالفن”، في حين ركز المفكرون الإنجليز مثل “جان كولت” و”السير توماس مور” على دور الدين في إصلاح الإنسان من الداخل، وسعى هؤلاء للتوفيق بين المسيحية وبين والإنسانوية المستلهمة من فلاسفة الإغريق القدماء.

 لكن مع القرن السادس عشر الميلادي، بدأت الإنسانوية ترتحل تدريجيا بعيدا عن الآراء الإصلاحية الدينية، وذلك مع الاهتمام بدراسة القانون في فرنسا، ومع تبلور نظام قانون يستقي من القانون الروماني القديم، تم تعريف إنسان عصر النهضة وفق الأسس والأنظمة الفكرية والفلسفية لأرسطو وأفلاطون، وفي ذلك العصر أصبحت فكرة مركزية الإنسان طاغية، وتم إخراج المفاهيم الغيبية أو الميتافيزيقية من دائرة العقل، وكان “فرنسيس بيكون” من أوائل فلاسفة ذلك الاتجاه، ووجه انتقادات حادة للنزعة الأرسطية التي كانت تهيمن على العقل الاوروبي آنذاك، وطرح مفهوم “الأصنام الأربعة”(3) the Four Idols التي استحوذت على الضمير الإنساني، وتركت تأثيرها على فهمه وإدراكه للعالم بصورة غير صحيحة.

ومع الفيلسوف “ديكارت” ومنهجه في الشك، أخذ العقل ينفصل تدريجيا عن الغيب أو الميتافيزيقيا، فأصبح العقل بماديا ودنيويا، وكان لمنهج الشك الديكارتي دور في ترسيخ مفهوم الإنسانوية، فأخذ ما يمكن أن نسميه “لاهوت العقل” يتسع ويسعى للسيطرة على العقل والروح في الغرب، وانعكس ذلك في مفهوم الإنسانوية وفلسفاتها التي أصبحت خاضعة للتأثير العلماني الكثيف، يذكر الكتاب أن “ديكارت” كان يذكر البراهين الوجودية على إثبات وجود الله، لكنه في ذات الوقت يعمل على إخراج أعمال الكنيسة عن حقل المعرفة العقلية.

وبعد ديكارت أخذت الإنسانوية تركز على العقل بوصفه المصدر الوحيد للمعرفة، وتم إيجاد سلسلة من المباديء التي تقوي هذا التوجه، فمع الفلاسفة التجريبيين وعلى رأسهم “ديفيد هيوم” وثقت الإنسانوية صلتها بالعلمانية المعاصرة، وتم استبعاد مفهوم التصورات الفطرية التي تحدث عنها ديكارت، وذهب التجريبيون للقول بمركزية الإنسان في الكون، وصارت الذات الإنسانية مركز العلوم، ورأى هؤلاء أن التجربة أهم عنصر في المعرفة الإنسانية، لذا رفضوا الغيب، ولم يقبلوا مفهوم الفطرة، ورأوا أن الإنسان قادر على الوصول إلى اليقين دون الحاجة لأفكار وتصورات مسبقة .

التنوير..ارتحال جديد

عُرف القرن الثامن عشر الميلادي بأنه عصر التنوير في التاريخ الأوروبي، فكان الاهتمام بالعقل طاغيا، وأصبح الإنسان موضوعا مركزيا في الدراسات والاهتمامات، وظهرت النزعة العقلية المغالية لإزاحة كل شيء يقف أمام تقدم الإنسان، فعادت الإنسانوية الدين تحت دعاوى أنه يحول دون التقدم الفكري، وظلت تلك الروح المعادية للدين إحدى خصائص الإنسانوية بعد ذلك، إذ اقتربت من الإلحاد، بعدما اعتبرت الإنسانية غاية في حد ذاتها، فتحدث “أوجست كونت” عن الإنسانوية الإلحادية، الرافضة للغيب والمنكرة لوجود الله، وكان يرى أن واضع الدين هو الإنسان، وعمل “كونت” على تثبيت أسس دين الإنسانية في مختلف أبعاده الفلسفية والسياسية والاجتماعية

والحقيقة فإن الإنسانويين الملحدين في المرحلة المعاصرة، ومن بينهم الماركسة، نفوا كل ما هو متعالى، واستبدلوا الخالق سبحانه بالإنسان، وبذلك وضعت الأسس لاغتراب الإنسان عن ذاته، وأعلنت تلك الإنسانوية بوضوح  أنه: ” إذا أراد الإنسان أن يتطوّر، تعيّن عليه التخلي عن الأديان الإلهية التي تحول دون التطوّر، وإذا أراد أن يختار لنفسه ديناً، وجب أن يكون واضع ذلك الدين هو الإنسان”.

يشير كتاب “الهيومانية: دراسة تحليلية نقدية للأسس والجذور” أن الإنسانوية المعاصرة لا هي دينية كثيراً، ولا هي إلحادية كثيراً، وإنما هي مفرطة في العلمانية، وأن الفصل بين الإنسانوية والعلمانية في الثقافة الغربية يكاد أن يكون مستحيلا، فهو في غاية التعقيد، حيث تم إرساء الإنسانوية والعلمانية في وقت متزامن، كما أن الإنسانوية العلمانية حددت هدفها بوضوح، هو تحقيق السعادة الدنيوية، أو تشييد الفردوس الأرضي، وتلك نقطة افتراق بين العلمانية والأديان السماوية، وكما أشارت الإنسانوية في بيانها الصادر عام 2003 ” الإنسانوية العلمانية لا تعارض الدين ولا تعارض الإلحاد، وإنما تستطيع التماهي والتناغم مع مختلف العقائد والأفكار، والغاية الأصلية المنشودة لها تتمثل في توفير السعادة الدنيوية للإنسان” غير أن الإنسانوية العلمانية تنسجم مع الإلحاد أكثر من إنسجامها مع الدين، لذا ساهمت العلمانية في تغلغلها في نسيج المجتمعات الغربية.


1- عبارة ذكرها ابن القيم في كتابه “مدارج السالكين”

2- ترجمة حسن علي مطر، والصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، عام 2022 في 340 صفحة

3- الأصنام الأربعة هي: “الأصنام القبلية” المتعلقة بانتماء الإنسان العرقي، و”أصنام الكهف” وهي التي تسيطر على مزاج الأفراد، و”أصنام السوق” التي تسيطر على الألفاظ والمفاهيم المستعملة في معاملات الناس اليومية، و”الأصنام المسرحية” وهي النظريات التي تتسلل إلى أذهاننا عبر الأحكام الفلسفية.