قدم لنفسك زاداً وأنت مالك مالك من قبل أن تتفانى ولون حالك حالك ولست تعلم يوماً أيّ المسالك سالك إمّا لجنّة عدن أو في المهالك هالكومنها حديث: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: مَن لا درهم له ولا متاع. فقال ﷺ: ((المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، (اتهمه بالفاحشة دون بينة)، وأكل مال هذا، فيعطي هذا من حسناته، ويعطي ذاك من حسناته، حتى إذا فرغت حسناته ألقيت عليه سيئاتهم، ثم طرح في النار))[10](5) التدرج، وتجنب الطفرات: فقد جاء أعرابي إلى الرسول محمد ﷺ يسأله عما يجب عليه في الإسلام، فأجابه بأركان الإسلام المعروفة، من صلاة للمكتوبة، وأداء الزكاة، وصيام لرمضان، وحج لبيت الله الحرام، فسأله: هل علي غيرها؟ قال: ((لا ، إلا أن تطوع))، فقال: لا أزيد على ذلك ولا أأنقص[11]. لقد اكتفى ﷺ بذكر المفروض، وطوى ذكر النوافل لئلا ينفره، وهو حديث عهد بالإسلام. وأغلب ظني أن الأعرابي لم يكتفي بعد ذلك بالفرائض، وإن سمع من الرسول ﷺ قوله: ((أفلح الأعرابي إن صدق))، بل استزاد منها أن ذاق حلاوتها، وقام بالنوافل مع الفرائض. والله تعالى أمر الوالد أن يصبر صبراً طويلاً على أسرته، وهو يأمرها بالطاعة والخيرات، وينهاها عن السيئات. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه: ١٣٢) إذ لا يعقل أن يصبح الطفل تقياً، نقياً، صفياً، ولياً في يوم، أو شهر، بل لا بد من زمن كافٍ لتربيته، واقتناعه، وتنفيذه لما يؤمر به، وتدربه عليه كي يجب ذلك، ويألفه، ويثابر عليه دون انقطاع. أما تحمله فوق طاقته، وتكليفه بما يعجز عنه فهماً، وحفظاً، وتنفيذاً، فإن ذلك مما يؤذيه، وينفره، فينحرف. (6) التربية غير المباشرة: فقد رأى ﷺ أبا أمامة في المسجد في غير وقت صلاة، فسأله: ((مالي أراك في المسجد؟)) فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. وكأني بالرسول ﷺ يريد أن يقول له: وهل يذهب جلوسك في المسجد في غير وقت الصلاة همومك، أو يقضي دينك؟ ومن الكسل، والخمول، والجبن، والعجز، تسد به دينك فينفرج همك. ولو قال له ذلك لنفره، وجرح شعوره، ولكنه قال له: ((يا أبا أمامة! ألا أدلك على شيء إذا قلته أذهب الله به همك، وقضى دينك؟)). قال: بلى يا رسول الله! قال: ((قل صباحَ مساء: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن، والبخل، وغلبة الدين، وقهر الرجال))[12] ففهم أبو أمامة أن الرسول ﷺ يدعوه إلى البحث عن عمل بطريقة غير مباشرة انطوت في دعاء جميل يدعو به ربه، فسارع أبو أمامة إلى أن كسب من عرق جبينه، وكد يمينه كما حدثنا، فرزقه الله تعالى من ذلك رزقاً قضى به ديونه، وعاش مكتفياً مسروراً، لا يحتاج أن يسأل أعطوه، أو منعوه. (7) التربية العملية: فقد جاء شابٌّ إلى رسول الله ﷺ يسأله مالاً، فرأى فيه فتوة، وشباباً، وقوة، فلم يعطه شيئاً، وإنما قال له: ((أعندك شيء تستغني عنه؟)) قال: نعم، كأس وبساط. قال: ((ائتني بهما)). فأحضرهما، فباعهما رسول الله ﷺ لأحد الصحابة بدرهمين، وأعطى الدرهمين للشاب، وقال له: ((اذهب واشتر حبلاً وفأساً، وتعال إليَّ)). ففعل الشاب، فوضع الرسول ﷺ الفأس بالعصا الخشبية، وقال: ((اذهب واحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً)) ففعل الشاب، وعاد وقد وفر خمسة عشر درهماً، فقال له e- وقد لمس الشاب ثمرة العمل بيديه-: ((هذا خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك))[13]. كما قال ﷺ: ((إن أفضل الكسب كسب داود، كان يأكل من عمل يده))[14](8) حسن التصرف قولاً وعملاً: من ذلك أنه ﷺ لما وصل المدينة المنورة مهاجراً، كان كلُّ من فيها من المسلمين يتمنى أن ينال شرف نزوله في داره، ولو اختار أحداً منهم لوجد البقية في نفوسهم، فقال مشيراً إلى ناقته: ((دعوها فإنها مأمورة))[15] فبركت الناقة أمام بيت أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- فنزل ضيفاً عنده، ريثما يجد له بيتاً يسكنه، ورضي الجميع. ومن ذلك أنه ﷺ حدث أصحابه مرة عن أناس يدخلون الجنة بغير حساب، وذكر صفاتهم التي تميزهم عن غيرهم، فقال له رجل- يقال له عكاشة-: ادع الله لي أن أكون منهم يا رسول الله! فقال: ((أنت منهم يا عكاشة)) فقام آخر يطلب مثل ذلك، فقال له: ((سبقك بها عكاشة))[16] وفي جوابه بالغة أرضت السائل، ومنعت غيره أن يسأل كما سأل عكاشة. ولو أجاب الثاني لسأل الجميع مثل سؤاله، وقد يكون فيهم من لا يستحق ذلك، فيقع الحرج، فكان جواب النبي ﷺ مقنعاً، ومانعاً للحرج. ولما قدم أبو سفيان إلى المدينة يستطلع الخبر بعد غذر قريش وإساءتهم لصلح الحديبية وشروطه، لم تحسن ابنته أمُّ حبيبة وفادته، غيرةً منها على الإسلام ورسوله، فأمرها ﷺ أن تحسن إلى أبيها، وتكرم مجلسه ووفادته، فأدرك أبو سفيان أنه eلا يحقد، ولا يسيء، ولا ينتقم لنفسه. وهي من صفات النبوة. وفي ذلك دعوة إلى الإحسان بالوالدين ولو كانا على كفر أو ضلال، مع نصحهما، وتذكيرهما بالحق بحلم، وأدبٍ، ورفق. فكم من والد اهتدى على يد ولده البار الصالح المحسن! وكم من والدة اهتدت على يد ولدها أو ابنتها! حين تتوفر الحكمة عند الأولاد الصالحين في نصح آبائهم الضالين. (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: ٢٦٩) والله تعالى دعا إلى الإحسان بالوالدين ولو كانا مشركين، فقال: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: ١٥)
[1] رواه أحمد (5/34و372)
[2] رواه أحمد (1/409-410) والبخاري في التوحيد (7534) مسلم في الإيمان (85)
[3] رواه أحمد (3/436) والبخاري والأذان (631) ومسلم في المساجد(674)
رواه أحمد (3/318) والنسائي في المناسك (5/270)[4]
[5] رواه مسلم في الفضائل (2363)
[6] رواه البخاري في الأطعمة (5376) ومسلم في الأشربة (2022)
[7] رواه الترمذي في صفة القيامة (2516)
[8] رواه أحمد (5/230) وأبو داود في الأقضية (3592) والترمذي في الأحكام (1327)
((لا آلو)): لا أقصر في الاجتهاد، ولا أترك بلوغ الوسع فيه.
[9] رواه أحمد (1/382) والبخاري في الرقاق (6442) والنسائي (6/237-238)
((ما قدمت)): أي في حياتك. ((ما أخرت)): أي بعد موتك.
[10] رواه أحمد (2/303و 334) ومسلم في البر والصلة (2581) والترمذي في صفة القيامة (2418)
[11] رواه أحمد (1/162) والبخاري في الإيمان (46) ومسلم الإيمان (11)
[12] رواه أبو داود في الصلاة (1555)
[13] رواه أبو داود في الزكاة (1641) وابن ماجه في التجارات (2198)
[14] رواه البخاري في البيوع (2072و 2073)
[15] ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (2/140)والذهبي في تاريخ الإسلام، السيرة النبوية (ص:330)
[16] رواه أحمد (1/403و454)وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (9/304) وعزاه ابن القيم في حادي الأرواح (ص: 188) لأحمد بن منيع في مسنده، وقال: إسناده على شرط مسلم.