إن الناس -في كل زمان ومكان-يشتاقون إلى معرفة كيفية خلق العالم، ويكثر تساؤلهم بمتى وكيف؟ ويريدون تحديداً واضحاً عن الأول من المخلوقات وعما بعده… إنهم يريدون ترتيباً يكون فيه التعيين والتحديد. لقد شغلت هذه المسألة الكثير من الصحابة، فأخذوا يسألون رسول الله ﷺ عنها، بل إن الوفود كانت تأتيه من بعيد، يدفعها حب الاستطلاع، ويتجشَّمون السفر من أجل المعرفة… ها هم أولاء ناس من أهل اليمن، كما يروي الإمام البخاري رضي الله عنه، فيقولون جئنا نسألك عن هذا الأمر؛ أي أمر الخلق، خلق الكون، لقد جاؤوا من اليمن يسألون عن متى وكيف؟
وقد روى الإمام البخاري أيضاً عن سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-قال: قام فينا النبي ﷺ مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق حتَّى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه.
ومعنى كلام سيدنا عمر أن رسول الله ﷺ أخذ يحدث الصحابة عن بدء الخلق متدرجاً مع الترتيب حتى انتهى إلى نهاية العالم ومصيره، والبعث والحساب، حتى دخل الذين نالتهم رحمة الله الجنة، والذين اكتسبوا السيئات عاقبهم الله بما كسبت أيديهم فأدخلهم النار.
ولقد رُوي عن بعض الصحابة أن رسول الله ﷺ خطبهم في ذلك من العصر إلى أن غربت الشمس، ويبدو أن رسول الله خطب في ذلك عدة مرات، فقد روى الإمام مسلم عن أبي زيد الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح فصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى بنا الظهر، ثم صعد المنبر فخطبنا، ثم صلى العصر كذلك حتى غابت الشمس، فحدثنا بما هو كائن، فأعلمُنا أحفظُنا.
ولقد روت الأحاديثُ الصحيحةُ جملةً من القضايا؛ منها ما رواه الإمام البخاري عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-وهي إجابة الرسول ﷺ عن سؤال وفد اليمن؛ والقضية الأولى في ذلك: كان الله ولم يكن شيء غيره. والقضية الثانية: كان عرشه على الماء. والقضية الثالثة: أنه سبحانه وتعالى كتب في الذِّكر كلَّ شيءٍ “أيّ: في محل الذِّكر؛ أي: اللوح المحفوظ. والقضية الرابعة: أنه سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض.
فقد قال رسول الله ﷺ لأهل اليمن: “كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِّكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض”.
وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر بدء الخلق في أكثر من آية؛ مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة العنكبوت: 20]. فالقرآن الكريم من طريقته أن يتخذ الكون كله معرضاً لآيات الإيمان ودلائله، وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب، تبحث فيها عن آيات الله، وترى دلائل وجوده ووحدانيته، وصدق وعده ووعيده، ومشاهد الكون وظواهره، حاضرة أبداً لا تغيب عن إنسان، ولكنها تفقد جدَّتها في نفوس الناس بطول الألفة، ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار، فيردُّهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة، وإلى تلك الآيات الباهرة، بتوجيه الموحي، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر، ويثير تطلُّعَهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها، ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر، ولا يتخذ طرق الجدل الذهني البارد، والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولا حركة، التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلَّت غريبة عليه، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق.
– ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾: والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملَّها القلب، وهي لفتة عميقة إلى حقيقةٍ دقيقةٍ، وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيءٍ من مشاهده أو عجائبه، حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسُّه وقلبه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمرُّ على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه، وربما عاد إلى موطنه بحسٍّ جديد وروح جديدٍ ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته، وعادت مشاهد موطنه وعجائبه تنطق له بعدما كان غافلاً عن حديثها، أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه، فسبحان منزل هذا القرآن، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس.
– ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ﴾: إن التعبير هنا بلفظ الماضي “كيف بدأ الخلق”، بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق، يثير في النفس خاطراً معيناً؛ ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى وكيفية بدء الخليقة فيها، كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة؛ كيف نشأت؟ وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟ وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة: ما هي؟ ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حي؟ ويكون ذلك توجيهاً من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة.
ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر؛ ذلك أن المخاطَبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثاً، فلم يكونوا بمستطيعين يومئذٍ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به -لو كان ذلك هو المقصود- فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمراً آخرَ داخلاً في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة، ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان؛ ويكون السير في الأرض -كما أسلفنا- لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمُّل والتدبُّر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظةٍ من لحظات الليل والنهار.
وهناك احتمال أهم يتماشى مع طبيعة هذا القرآن؛ وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعاً، ومستوياتهم جميعاً، وملابسات حياتهم جميعاً، ووسائلهم جميعاً، ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته، ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبداً، ومن ثم لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين، هذا أقرب وأولى.
-﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة ومن قدرة الله على كل شيء. وقال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 104]. وقوله: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [سورة يونس: 4].