يواجه العالم الإسلامي تحديات كثيرة، لا سيما على المستوى الفكري، الذي هو بالضرورة ينعكس سلبًا أو إيجابًا على بقية التحديات والمجالات. ومن هنا، تستمد ضرورةُ الاشتباك مع القضايا الفكرية الراهنة، أهميتها وحيويتها.

وقد عقدت الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا مؤتمرها العالمي الثالث تحت عنوان (القضايا المعاصرة في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان)، وذلك يومي الأربعاء والخميس 30 و31 من شهر أكتوبر الماضي، بخضور نخبة من الباحثين والمفكرين من دول إسلامية متعددة.

في هذا الحوار نتوقف مع الدكتور د. بدران مسعود بن لحسن، أستاذ مقارنة الأديان ومناهج دراسة الدين المشارك، بكلية الدراسات الإسلامية- جامعة حمد بن خليفة؛ لنتعرف على أهمية المؤتمر، وأبرز محاوره، والمشاركين فيه، وما يثيره من إشكالات وأطروحات تدفع الفكر الإسلامي نحو الفاعلية والتفعيل.

 

– كيف جاءت ظروف انعقاد المؤتمر؟

هذا المؤتمر هو الثالث في سلسلة مؤتمرات تعقدها الجامعة الإسلامية العالمية بعنوان (التراث العلمي المعاصر والإسلام)، وفي كل مرة تختار له موضوعًا فرعيًّا. وقد جاء المؤتمر الثالث تحت عنوان: (القضايا المعاصرة في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان).

والمؤتمر مشروع فكري يُعقد بوصفه منتدى علميًّا للمثقفين، والباحثين، وممثلي المؤسسات، والطلبة، في جميع الأقطار؛ لتبادل الآراء والأفكار والانطباعات في القضايا الفكرية المعاصرة حول الإسلام في مختلف جوانبه، والأديان المقارنة. وهو بمثابة منبر لفهم أفضل لواقع الإسلام والمسلمين، والسعي لإحداث تغييرات جذرية كبري لتحسين أوضاع المسلمين الحاضرة.

– كيف كانت المشاركات من الدول الإسلامية؟ ومن أبرز الحضور؟

كانت المشاركات من دول عديدة؛ لعل من بينها ماليزيا، وتركيا، وقطر، والجزائر، وإندونيسيا، ونيجيريا، ومصر، وسنغافورة، والمغرب، والهند، وتايلندا، وباكستان، والسودان، وبنغلادش.

ولعل أبرز الوجوه، كانت سفيرة تركيا بماليزيا، والدكتور ياسين أقطاي من تركيا، والدكتور خير الدين الجنيد من سنغافورة، والدكتور محمد كمال حسن من ماليزيا، والدكتور محمد ممتاز علي من ماليزيا، والدكتور أحمد فهمي زركشي من إندونيسيا، وغيرهم.

– ما أهم المحاور والقضايا التي تناولها المؤتمر؟

تضمن المؤتمر محاور عديدة، هي: الإسلام والرؤى الأخرى، الزهد، الفلسفة، العقيدة، الفرق، الدعوة، الأخلاق، القضايا الداخلية في الأديان، العلاقات بين الأديان، مقارنة الأديان، مقاربات إسلامية وغربية للحضارة، المفاهيم في الأديان، الأفكار (الأيديولوجيات) الحديثة، دراسات الجندر، الشريعة والفقه الإسلامي، النظام المالي الإسلامي، الإسلام والعلوم، الإسلام والتعليم.

– نود إلقاء الضوء على البحث الذي شاركتم به.

بحثي كان بعنوان (تدريس مقارنة الأديان في جامعة حمد بن خليفة: مقاربة جديدة لتحقيق التركيبة المبدعة)، تناولت فيه فلسفة ومنهج وبرنامج تدريس مقارنة الأديان، في برنامج مقارنة الأديان بكلية الدراسات الإسلامية، الذي يقوم على أساس السعي لتجاوز إخفاقات علم مقارنة الأديان في الغرب، وإحياء الجهد الإسلامي في دراسة الأديان؛ كما كان في تراث ابن حزم والشهرستاني والبيروني وما قام به الفاروقي في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

هذا العلم الإسلامي الأصيل توقف منذ أن جمد الإبداع العلمي في أمتنا، وحان وقت إحيائه وبَعْثِه، والاستفادة في هذا المجال من سقف المعرفة المعاصرة، مع ممارسة النقد لقصور المناهج الحديثة في دراسة الدين، ومحاولة فك الارتباط بينها وبين محالاتها الفلسفية والثقافية والدينية؛ لتكوين باحثين مسلمين يتناولون الشأن الديني بأصالة واقتدار، وبخاصة نحن نعيش في عالم مُعولَم، لم يعد فيه من الممكن الانفراد بمصيرنا بمعزل عن العالم.. كما نشهد عودة الدين إلى الشأن العام، واهتمام الأكاديميات والجامعات الغربية بدراسة الدين بطريقة مختلفة عن الطرق التقليدية.

وهذا يتطلب تكوينًا علميًّا دقيقًا، يجعل من الباحث المسلم خبيرًا بالموضوع، منفتحًا على المعرفة الإنسانية، ناقدًا لها، متسلحًا بأدوات المعرفة الإسلامية، خادمًا لبلده ولشعوب العالم، موصلاً لها القيم الإسلامية العلمية والأخلاقية والدينية بشكل مؤسَّس معرفيًّا ومنهجيًّا.

– من اللافت أن المؤتمر ارتبط عنوانه بـ “القضايا المعاصرة”.. ألا تتفقون مع من يرى أن إحدى سلبيات واقعنا أن الفكر الإسلامي مازال مشدودًا إلى الماضي أكثر من الحاضر، فضلاً عن التطلع إلى المستقبل؟

تشكل التطورات المعاصرة والمعضلات المتعددة التي تواجه الأمة الإسلامية، خاصة على المستوى الفكري، تحديًا خطيرًا للإسلام والمسلمين، وجوديًّا وحضاريًّا. وترجع هذه المشاكل إلى الأوضاع الداخلية للمجتمعات المسلمة والتأثيرات الخارجية.

ومع دخول العالم في “عصر الارتباك والاضطراب”، تواجه الأمة الإسلامية على المستوى الداخلي، تهديدًا ناشئًا من الجماعات المسلحة أو الفرق والتيارات التي تميل إلى تجاهل المبادئ الدينية المتفق عليها، أو أنها مصممة على إحداث تغييرات اجتماعية ودينية وفق رؤيتها الخاصة للمجتمع الإسلامي أو الثقافة أو الدولة.

وعلى النقيض من أولئك، ظهرت في بعض البلدان الإسلامية تيارات ليبرالية وعلمانية تسعى حثيثًا بكل قوة إلى نشر آرائها وأفكارها التي تهدف إلى تفكيك البُنَى الدينية والقيمية الإسلامية؛ وذلك برفع شعارات حالمة والقيام بممارسات ظالمة؛ فهي ترفع شعارات “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”الحرية الفردية” و”حرية التعبير” و”الاعتدال” و”العقلانية”، لكن ممارساتها مخالفة تمامًا لما ترفعه من شعارات.

وفي هذه الأثناء كذلك، تواجه الأمة الإسلامية تهديدات خارجية متنوعة، فكرية وثقافية ودينية وحضارية؛ فقد أصبح دين الإسلام وأتباعه هم المستهدَفين بشكل رئيسيّ بالشيطنة والاتهام بالطائفية والإسلاموفوبيا. وصار يُنظر إلى شريحة كبيرة من المسلمين على أنهم أصحاب عنف وتشدد؛ ويُنظر إلى القرآن على أنه مصدر العنف والتشدد في جميع أنحاء العالم.

كما أن وسائل الإعلام الغربية والأوساط الأكاديمية تسعى حثيثًا لجعل الإسلام والمسلمين يسيرون وفقًا للمنظور أو المصالح الغربية، من خلال تصنيفاتهم للإسلام إلى ما بات يُعرف بـ”الإسلام السياسي”، و”الإسلام الروحي”، و”الإسلام الوطني”، و”الإسلام المعتدل”، و”الإسلام الليبرالي”، و”الإسلام الحداثي”، و”الإسلام النسوي”، و”الإسلام العلماني”.. إلخ.

نظرًا إلى هذا الواقع، فإن بذل جهد منسق لتحديد بديل فكري إسلامي صار أمرًا ملحًا وحتميًّا. ومن الضروري للسلطات الدينية والعلمية الإسلامية تعزيز الفهم الصحيح والمتوازن للتعاليم الإسلامية. وفي هذا السياق جاء هذا المؤتمر الذي يسلّط الأضواء على القضايا المعاصرة المحيطة بالأمة الإسلامية، في الأمور المتعلقة بالفكر الإسلامي وعلم مقارنة الأديان؛ لصياغة طرق ونماذج جديدة في التعامل مع تلك القضايا، ولإيجاد طرق هادفة تؤكد قابلية الإسلام لأن يكون بديلاً، وصلاحيته في الزمن المعاصر، والأهم من ذلك إحياء الدور القيادي للإسلام والمسلمين في بناء الحضارة المعاصرة.

– إذن، ما السبيل لتعزيز هذه “المعاصرة” في تناول قضايانا وإشكالياتنا؟

في تصوري المتواضع أن السبيل إلى هذه “المعاصرة” يكون بتعميق الجانب العلمي السُّنَنِي في مقاربة مشكلاتنا وقضايانا، انطلاقًا من مرجعيتنا الإسلامية؛ بحيث نسعى لتشخيص مشكلاتنا وقضايانا كما هي، دون محاولة استيراد حلول تاريخية مفصولة عن واقعنا، أو استيراد حلول من غيرنا دون نقدها وتمحيصها ومعرفة مدى كونها حلولاً وليست مُسبِّبات تأزيم، ومراعاة امتداداتها التاريخية والجغرافية، والتشابك الحاصل اليوم في العالم، وارتفاع التفكير والحلول إلى مستوى العالمية.

وعلينا أن نصوغ مشروع نهضة يقوم على رؤية واضحة تحدد الحالة التي نحن فيها، وما نحتاجه ونريد إنجازه، باستثمار إمكانياتنا الذاتية، وخبرة أمتنا الحضارية، والتعلم من الخبرة الإنسانية عبر التاريخ، ومن خبرة الحضارة المعاصرة.

ذلك أن وضوح الرؤية هو ما يحدد المنهج والطريق الذي سنسلكه، ويحدد الغاية التي نسعى إليها، دون تلفيق، ودون الوقوع في اغتراب في ماضينا أو في حاضر غيرنا.

– لماذا اتجه المؤتمر إلى معالجة “مقارنة الأديان”، بينما المألوف تناول “حوار الحضارات”، تجنبًا للمناطق الشائكة المختلَف عليها؟

هو مؤتمر أكاديمي، يتناول التراث العلمي المعاصر كل مرة، وفي كل مرة أيضًا يخصص له موضوعًا محوريًّا يدور عليه؛ وكان محور هذا العام “مقارنة الأديان”، لما فيه من أهمية الاطلاع على التراث العلمي المتعلق بدراسة الأديان، والتعددية الدينية، وتعددية القيم وعالميتها، وما يثار من إشكالات تواجه الدين والتدين عمومًا والإسلام بوجه خاص، من قِبَل الحداثيين وما بعد الحداثيين والملحدين.

فكان لزامًا على الباحثين في المجال أن يكونوا على دراية بإشكالات الموضوع وامتداداته، وتأثيره على سلامة تدين المسلم، وكيف يكون الإسلام حلاًّ للإنسانية في ضوء التحريفات التي لحقت بالأديان، وفي ضوء عبث الإنسان تاريخيًّا ببقية الأديان؛ فهنا يكون للإسلام بمرجعيته المتعالية عن التحريف أن يُسهم في ترشيد الإيمان، وتحقيق ماهية الإنسان المبتلَى بالمادية الطاغية والدينية المحرَّفة.

 -ما القضايا التي كنتم تودون مناقشتها، ويمكن أن تكون محاور لمؤتمرات أخرى؟

من القضايا المهمة التي وددت مناقشتها، وقد نشرت بعضها في حسابي على “فيس بوك”، ثلاثة أمور:

أولاً: لا بد من التفكير في مشروع نهضة شاملة، وجمع الخبراء لمدارسة ذلك، وتكتل الجهود لتحقيقه تصورًا ومباشرته تطبيقًا.

ثانيًا: أهمية القيادة الاستراتيجية، وأهمية انخراط الشعوب في الكدح من أجل الأمة؛ فقلت: “قيادات نظيفة ذات رؤية استراتيجية وشعوب تكدح، وبالرغم من ذلك تواجه دولهم تحديات كبرى. بينما عندنا قيادات فاسدة تمرح وشعوب مسترخية، تنتظر خراج الريع، وتريد أن تكون قوى كبرى.. شتان!

ومن المؤكد أننا بلا رؤية استراتيجية، وبلا قيادات نظيفة، وبلا شعوب تكدح؛ لن نبرح آخر القائمة في ترتيب التنمية في الدول والمجتمعات”.

ثالثًا: مسألة الإصلاح الفكري؛ فإن هناك خللاً في بنيتنا الفكرية منذ قرون، ولن نستعيد أصالة أفكارنا وفعالية أدائنا ما لم نراجع بشجاعة بنيتنا الفكرية؛ والبداية تكون بمراجعة طرق التعليم ومناهجه ومؤسساته وفلسفته وهياكله وعناصره البشرية؛ فإن فشل التعليم هو ما أدى إلى عدم القدرة على إفراز نخبة أصيلة فعالة تخرجنا من تخلفنا.

– لماذا لا نرى في العالم العربي حضورًا للإسهام المعاصر من مفكري وباحثي “الشرق الإسلامي البعيد” (ماليزيا، إندونيسيا، الهند، باكستان)؟ وكيف نعزز هذا الحضور؟

لعل سؤالك هذا يذكرني بما حزّ في نفسي وأنا بالمؤتمر، وأجد أن معرفتنا ببعضنا البعض كشعوب تنتمي إلى الحضارة الإسلامية، معرفة هزيلة؛ بسبب عدم وجود مراكز تهتم بِوَصْلِ الأمة بعضها ببعض.

ولعل هذا دفعني وأنا في المؤتمر أن أنشر على صفحتي بـ”فيس بوك” أمنية طالما تمنيتها، وأسعى لأجلها، وهي في النص التالي: من يعينني بالأفكار والدعم في حلم تأسيس (مركز دراسات الحضارة الإسلامية وشعوبها):

١- يهتم بإسهامات مختلف شعوب العالم الإسلامي في الحضارة الإسلامية.

٢- ترجمة أعمال الشعوب الإسلامية المختلفة إلى أشهر لغات العالم الإسلامي ولغات العالم الكبرى.

٣- القيام بدراسة مناطقية لمختلف جهود شعوب الأمة في التجديد والإصلاح.

٤- دراسة أنثروبولوجية لشعوب وثقافات الأمة، وتحديد المشترك بينها داخل إطار الأمة الواحدة والحضارة الإسلامية المشتركة، والاستفادة من اختلافات التنوع.

فنحن أمة لا يعرف بعضها بعضًا، بالرغم من رابطة الأخوة الإيمانية.. ومن المؤكد أن لكل شعب من شعوبها إسهامات لا يستهان بها، للأمة والحضارة الإسلامية.