كتب الرحلة من أهم فنون الكتابة التي صورت لحظة اللقاء العربي والإسلامي بالحضارة الغربية[1]، ورصدت حالة الصدمة والدهشة والانبهار التي أصابت النخبة الإسلامية عند لقائها الأول مع الغرب لحظة صعوده الحضاري خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، كذلك رصدت ما طرحته النخبة من أسئلة كبرى حول التقدم والتخلف وأسبابهما، ومقارنة الذات بالآخر.

 

لم تكن الرحلة في تلك الفترة ترصد معالم السياحة والآثار، وجمال الطبيعة والأنهار، لكنها كانت تتلمس مكامن القوة الغربية ومحاولة تجلية أسبابها، وعوامل الوهن التي أصابت المسلمين، وأسباب غفلتهم الكبرى عن التقدم، وتطرح أسئلة النهوض وتبحث عن دوافع الاستنهاض للجسد الإسلامي الذي مازال يحلم بأمجاده الخالية، وفي هذا الإطار يأتي كتاب كتاب “تجارب استغرابية: الغرب في مرآة الرحالة العرب والمسلمين” تحرير: محمود حيدر، والصادر  عام 2019 عن المركز الإسلامي في بيروت في (400) صفحة.

يحوي الكتاب الكثير من الرحلات التي قام بها رحالة عرب ومسلمون إلى بلاد الغرب في فترات مختلفة من التاريخ اختلفت فيها قوة المسلمين السياسية والحضارية وضعفهم، لذا فالكتاب يُحضر بين يدي القاريء كثير من الرؤى المتنوعة وكيفية تأثير السياقات المختلفة على الرحالة، حيث تعرف هؤلاء على المجتمع الغربي عن قرب ودونوا مشاهداتهم وانطبعاتهم في الميادين المختلفة، الكتاب مقسم إلى ثلاثة فصول، هي: الرحلات إلى الغرب صورة تاريخية، ومن الاغتراب إلى الاستغراب السلبي، واحتدام الذات والآخر في ثقافة الرحالة.

الرحلة..لحظة القوة

يبدو أن من يكتب رحلة وهو آت من دولة متغلبة وحضارة قوية يكون تدوينه بحثا عن موطأ جديد لدولته وثقافته، وهنا تتجلى  رحلة الرحالة العباسي “أحمد بن فضلان” التي اجتاز فيها بلاد الترك والروس وبلغ اسكندنافيا، وكتب عن الغرب لحظة إزدهار الحضارة الإسلامية وقوتها العسكرية ،وكتب عن بلاد غريبة عن المسلمين خاصة روسيا[2].

كان سبب الرحلة أن ملك البلغار”ألموش بن يلطوار”[3] بعث برسالة إلى العباسيين عام 921م تفيد بأنه لم يعد راغبا في أن تكون بلاده تابعة لـ”مملكة الخزر”[4] التي اعتنقت اليهودية، لذا أرسل إلى بغداد يطلب منها من يقوم بتعريفه هو وقومه بالإسلام، وطلب بناء مسجد في بلاده، وكان يحتاج إلى من يجيبه على سؤال “كيف استطاع الإسلام القادم من قلب الصحراء أن يُكون تلك الإمبراطورية العظيمة التي تضاهي إمبراطورية الإسكندر المقدوني؟” لذا أرسل  الخليفة العباسي بعثة علمية تحوي مختلف الفنون والصنائع والمهن مكونة من خمسة آلاف شخص، وترأسها  “أحمد بن فضلان” لتبحره العلمي والفقهي وقدراته العالية في الجدل والحوار وشؤون الشعوب.

وقد بدأت الرحلة في (12 محرم 310هـ=12 مايو 922م)، استغرقت الرحلة من بغداد إلى دخول بلاد البلغاء (11) شهرا، وعندما دخل “ابن فضلان” بلاد البلغار استقبله الناس بهتاف “الله أكبر”[5]، واستقبله الملك وإخوته، وعادت الرحلة بعد ما يقرب العامين إلى بغداد، بعدما نجحت في نشر الإسلام، وحلت الأبجدية العربية محل الأبجدية التركية منذ ذلك التاريخ حتى قيام الاتحاد السوفيتي، ولم تُلغ الأبجدية العربية إلا عام 1928م.

وشهدت منطقة روسيا رحلة أخرى لرحالة موريتاني تمتع بقوة علمية استطاع من خلالها الرد على شبهات المستشرقين، وهو الرحالة “أحمد بن الأمين الشنقيطي[6] الذي كان يزور مدينة “قازان”[7] وطلب منه أحد المسلمين الروس الرد على كتاب “الأمومة عند العرب” للمستشرق الهولندي “جورج آلكزندس ويلكن”، والذي قال فيه “إن العرب أخس من الكلاب”، كما طعن في أنساب العرب، فألف لذلك “الشنقيطي” كتابه “طهارةالعرب” عام (1326هـ=1908م).

الرحلة وانكشاف الذات

يمكن رصد البدايات الأولى للعلاقة مع الغرب مع فتح الأندلس في القرن الأول الهجري، حيث تأسست العلاقة على التنافس والصراع، وامتدت تلك العلاقة إلى المغرب العربي، وفي مجال الرحلات المغربية إلى الغرب في العصر الحديث يمكن رصد عدة رحلات منها: “الإكسير في فكاك الأسير” لـ”محمد بن عثمان المكناسي” وكان مقصدها إسبانيا، وهدفها فكاك بعض الأسرى المغاربة في نهاية القرن الثامن عشر، وامتدت قرابة العام من (1779 حتى1780م)، ثم كتب “المكناسي” رحلة أخرى بعنوان “البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسرى من يد العدو الكافر” وكانت إلى نابلولي ومالطا، وبدأت من (نوفمبر 1781 حتى أكتوبر 1782م) و”رحلة الصفار” لـ”محمد بن عبد الله الصفار” وكانت إلى  فرنسا واستمرت شهرين عام 1845م، و”الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية” لـ”محمد الطاهر الفاسي” وكان مدتها شهرين عام 1860م، و”حديقة التعريس في بعض وصف فخامة باريس” لعبد الله الفاسي، وهي تضمن محاضرة عن فترة إقامته في باريس عام ونصف أواخر عام 1909م.

كان المصلحون والمفكرون المغاربة يدركون أن قراءة الغرب قراءة واعية ضرورة تمليها تحديات الزمن الحضاري الذي يعيشه المغرب في تلك الفترة في القرنين الثامن والتاسع عشر، وكذلك تمليها ضرورات شرعية في التفكر في سير الأمم والاعتبار بسيرتها، لذا فالرحلة عندهم كانت مسؤولية دينية وضرورة حضارية، واختلفت الرحلات من حيث الأهمية والمنهجية تبعا لكاتبها ومنطلقاتها، لكن تبقى الرحلة إحدى وسائل التواصل الحضاري في تلك الفترة، والتي تكشف عن هموم نهضوية؛ فعند النظر إلى توقيتات الرحلة نجد أنها جاءت مع تراجع المسلمين حضاريا وعسكريا، وهو ما خلق للرحالة إحساسا بالضعف والتراجع وعدم الرضى عن الواقع والرغبة في تجاوزه، لذا تمثل تلك الرحلات مرآة عاكسة لنزوع نهضوي لمعرفة الغرب، فقد أدت هزيمة المغرب في معركة إيسلي 1844م[8]، وتطوان1860م[9]  إلى سقوط الوهم المغربي بالتفوق والمنعة، وترتب على المعركتين معاهدات وتنازلات مؤلمة، وظهر يمكن تسميته بـ”الوعي بالتفاوت” بين المغرب والغرب في تلك الرحلات، فكشفت الرحلات عن وعي السلطة والنخبة المغربية بالذات والآخر.

ولعل من الملاحظات المهمة الي يمكن الإمساك بها في الرحلات المغربية أنها اهتمت بعالم الأشياء وأهملت عالم الأفكار، كما أن كتابات الرحالة الأوائل كانت تستبطن وعيا دينيا واضحا، واهتماما برصد التقنيات الغربية وعجائبها، وهي أوصاف ومعلومات ومعرفة لا تمتلك الوعي بشروط التحديث والحداثة الحقيقية، وهي الشروط التي يوفرها عالم الأفكار، فالكثير من الرحالة لم يسع إلى البحث عن التطور والترقي الذي أصبح فيه الإنسان الغربي قادرا عن إنتاج مثل هذه التقنيات، فوعي الحداثة بصفتها أمرا أوسع من التقنية لم يكن حاضرا لدي بعض الرحالة، إذ اهتموا بعالم الأشياء الذي بهرهم وصدمهم في ذات الوقت فغفلوا عن تراكم التجربة الغربية في عالم الأفكار، فلم يدرك كثير من الرحالة  أن تطور وقوة النموذج المعرفي الغربي تأسس على تراكم معرفي تطبيقي في كافة المجالات، لذا تكاد تكون غالبية الرحلات المغربية أشبه بنص واحد كُتب بأقلام متعددة، فالهموم واحدة وكذلك الانبهار والدهشة، والإبقاء على المرجعية الإسلامية متينة الأواصر، والأخذ عن الغرب بشكل متوازن، والنظر إلى الغرب كتفوق مادي لا قيمي.

وتعد تلك الرحلات مادة خصبة لرصد تحولات الأفكار في إدراك الذات والآخر وشروط النهوض والتفوق، فقد جاء بعضها في أزمنة ذات دلالة في الصراع  والإنكسار والهزيمة والتراجع.


[1]من الكتب المهمة في هذا الشأن كتاب “الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة” للأكاديمية اللبنانية” نازك سابا يارد”، وكتاب “الرحالة العرب ودهشة اكتشاف الغرب” للأكاديمي المغربي عبد النبي ذاكر.

[2] نظرا لدقة ما كتبه ابن فضلان قام الروس بترجمة رحلة “ابن فضلان” إلى لغتهم، فقد كان ذا خبرة عسكرية جغرافية تحصل عليها من ملازمته لحملات الفتوح الإسلامية على تخوم الصين.

[3]ألمش بن يلطوار: يُعرف أيضا بـ” الحسن بن يلطوار” وتسمّى بعد إسلامه بـ”جعفر بن عبد الله” وكان أول الحكام الصقالبة المسلمون لمملكة الصقالبة التي تعرف بالمراجع الحديثة باسم دولة فولغا بلغاريا (في روسيا الآن) ومؤسس مدينة الأبوغا في تتارستان في روسيا، توفي عام 925م.

[4]مملكة الخزر: دولة حكمت الأراضي الواسعة جوار بحر قزوين من بحيرة وان ومن البحر الأسود إلى كييف، ومن بحر آرال إلى المجر. وهي دولة تركية في أوروبا الشرقية وذلك من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر الميلادي،  وكلمة الخزر اشتُقت من (قاز) التي أتت من كلمة جز، وهي كلمة تركية تعني تجول، ثم أصبحت (قازار بمعنى جزار) وتعنى الذي يتجول حرًا ولا يرتبط بأي مكان، وكان غالب الأتراك يعتنقون قبل الإسلام ديانة  تسمى التنكرية، وهي عبادة وثنية، إلا أن حاكم الخزر والنخبة اعتنقوا اليهودية عام 740م، وبقي معظم الشعب على الوثنية أو اعتنق الإسلام، ويعتقد العديد من الأكاديمين أن الخزر الترك اليهود هم أجداد اليهود الروس وأجداد اليهود في أوروبا الشرقية.

[5] مازالت جمهورية تتارسان في روسيا تتخذ من دخول ابن فضلان إليها في ذلك التاريخ عيدا قوميا لها كبداية لدخول الإسلام إلى أراضيها

[6] توفي أحمد بن الأمين عام 1913م

[7] عاصمة جمهورية تتارستان

[8]معركة إيسلي: وقعت قرب مدينة وجدة بين المغرب وفرنسا في 14 أغسطس 1844 م بسبب مساعدة السلطان المغربي المولى عبد الرحمن للمقاومة الجزائرية ضد فرنسا واحتضانه للأمير عبد القادر، وانتهت المعركة بانتصار الفرنسيين وفرضهم شروطا قاسية على المغرب، تمثلت في استيلاء فرنسا على بعض الأراضي المغربية .

[9]حرب تطوان: وقعت بين المغرب وإسبانيا ما بين عامي 1859 – 1860 م في تطوان شمالي المغرب، وانهزم فيها المغرب، وكانت انتكاسة كبيرة كتب عنها المؤرخ أحمد بن خالد الناصري قائلا : “ووقعة تطوان هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير”.