في أغسطس 2019م نُشرت باللغة الصينية رواية “أسطول الشمس” للأديب والدبلوماسي القطري “علي بن غانم الهاجري” وسبقها صدور الرواية بنسختها العربية عن “دار لوسيل” بالدوحة في ذات العام في 259 صفحة، والرواية وثائقية تتخذ من حياة ورحلات البحار والمكتشف الصيني المسلم “تشنغ خه” مادة للسرد.

 

والحقيقة أن كثيرا من تاريخنا الإسلامي وشخصياته العظيمة ما يزال مجهولا معرفيا وثقافيا كبيرا، إذ تتوقف معرفة الكثيرين عند حدود معينة في التاريخ لا تتجاوزها، وعند مناطق لا تتعداها، فلا يُلتفت إلا نادرا لعطاءات المسلمين خارج حدود المجال العربي، ومن تلك الشخصيات الملهمة “تشنغ خه” أو “جينغه” الذي قام بسبع رحلات بحرية[1] قضى فيها على ظهر السفن سبعة وعشرين عاما، قطع خلالها أكثر من خمسين ألف ميل،  ورسم خرائط اهتدي بها المكتشفون مثل: كولمبوس وماركو بولو وماجلان في كشفوهم لأمريكا وأستراليا ورأس الرجاء الصالح، لكنهم لم يقتدوا بأخلاقة التي تعاملت بالرحمة والسلام مع الشعوب التي نزل سواحلها، فلم يسفك الدماء أو ينهب الثروات مثلهم، وإنما كان يوزع الهدايا، وأفضل ما أنتجه الحضارة الصينية.

الإسلام في عصر مينغ

وصل الإسلام إلى الصين عام (29ھ =651م)، ومنذ ذلك التاريخ أخذ يعمق حضوره،  وكانت التجارة أحد أبوابه التي عبر منها، وعندما أعجبت الصين بعض التجار استقروا بها، وساعدهم على ذلك صدور أمر إمبرطوري مبكر جدا بأن التوطن في الصين شرط للزواج من الصينيات، وبمرور الوقت تكونت قومية “هوي” الصينية المسلمة، ثم تزايدت أعداد المسلمين خلال عصر أسرة يوان المغولية، ففتحت هذه الأٍرة الحاكمة الباب لهجرات المسلمين من آسيا الوسطى والعرب والفرس والترك، الذين حملوا ثقافاتهم ودينهم بجانب تجارتهم، فكانوا سببًا رئيسيًا في نشر الإسلام في جميع أنحاء الصين.

صورة مقال تشنغ خه..وأسطول الشمس
الهاجري اثناء التدشين

وقد حكمت سلالة “يوان” الصين قرابة المائة عام (من العام 1271م حتى العام 1368م) وهي أسرة أسسها الإمبراطور “قوبلاي خان”، وأصبح للمسلمين تواجد كبير داخل الصين[2]، ورغم أن حكام أسرة “يوان” لم يعتنقوا الإسلام، إلا أنهم أبدوا احتراما عظيما له، فجلب هؤلاء الأباطرة مئات الآلاف من المسلمين للمساعدة في إدارة البلاد[3] ، وليحلوا مكان رجال الإدارة والعلماء الكونفوشيوسيين.

صورة مقال تشنغ خه..وأسطول الشمس
تدشين أسطول الشمس بالصيني

وعندما سيطرت سلالة “مينغ”[4] بزعامة الإمبراطور هونغوو على الصين عام 1368م بعد إزاحتها لسلالة “يوان”، أنشئت جيشا قويا قوامه المليون جندي، ضم عشرات الآلاف من المسلمين، كما أنشئت أكبر أسطول حربي في العالم، وكان المسلمون قد اندمجوا في المجتمع والثقافة الصينية، إلا سياسة العزلة التي فرضتها سلالة “مينغ” في بداية حكمها أدى إلى تقلص نسبي لأعداد المسلمين خاصة في الموانيء، إلا أن الإمبراطور “هونغوو” أمر ببناء عدة مساجد، وكتب مائة عبارة[5] تمدح النبي محمد-، وضم جيشه قادة كبار من المسلمين، كما شجع الإمبراطور المسلمين على التوافد على عاصمته “نانجينغ” وبنى مسجدا ضخم فيها، وعندما تولى الإمبراطور “يونغلي” الحكم عام 1402م، زاد عدد المساجد، ومنح بعضها مرسوما إمبراطوريا بحفظها من أي اعتداء[6].

حياة فوق الماء

ولد “تشنغ خه”[1] عام 1371م، واسمه الحقيقي هو “ما سانباو”، واسمه العربي حج محمود شمس، وهو سليل أسرة كانت تحكم إحدى المناطق في بخاري بأوزبكستان، وجاء مولده بعد ثلاث سنوات من سيطرة أسرة “مينغ” على الصين، وهي فترة شهدت توتر وصراع لم يستقر فيها الحكم إلا بعد سنوات، وخلالها كان والده وجده قد أديا فريضة الحج، وقصا على الصغير، الذي لم يبلغ العاشرة، ما شاهداه في الرحلة المقدسة، إلا أن القدر كان على موعد مع الصغير، فقد أغارت قوات “مينغ” على المنطقة التي كان يقيم فيها “تشنغ خه” وتم أسره، وهو في الحادية عشرة من عمره، وتم تأهليه للخدمة في القصور الإمبراطورية، وجرت له عملية إخصاء كشرط للدخول إلى تلك القصور، وتلقى تدريبا عسكريا، وأُلحق بخدمة حاكم منطقة “يان” الأمير”تشو دي” الذي أصبح بعد ذلك إمبراطورا وتسمى بـ “يونغلي”، وأبدى الأمير إعجابه بشخصية “تشنغ خه” والمواهب التي يتمتع بها، وقدراته العالية في القتال والإدارة، فقربه إليه، خاصة بعد نجاح “يونغلي” في السيطرة على الحكم عام 1402م بعد انقلابه على الإمبراطور “جيانوين” الذي هرب إلى منطقة في شمال فيتنام بعد حرب أهلية دامية

عندما سيطر  “يونغلي” على السلطة قلص حضور الكونفشيوسية في الحكم والمجتمع الصيني، وبنى أكبر أسطول في العالم خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه، بلغ أكثر من 1600 سفينة، كان أكبرها سفينة الكنز، لذا كان يسمى “أسطول الكنز”، وأصبح “تشنغ خه” من كبار قادة الأسطول الذي قام برحلات على مدار ثمانية وعشرين عاما.

صورة مقال تشنغ خه..وأسطول الشمس

وفي العام 1405م تبدأ أولى رحلات “تشنغ خه” في المحيط الهندي، والتي أشيع أنها جاءت للقبض على الإمبراطور “جيانوين” بدأت الرحلة في (11 يوليو 1405) وكانت تضم (317) سفينة تحمل أكثر من (27) ألف رجل منهم (300) ضابط، و(180) طبيبا وعدد من المترجمين والمنجمين والحرفيين، وكان عدد السفن الكبيرة يزيد على الستين، ويصل طول بعضها مائة وخمسين مترا، وتحمل ألف طن إضافة إلى ألف رجل، وتعود الرحلة بعد عامين في أكتوبر 1407م ولم يلبث أن ينطلق “تشنغ خه” برحلته الثانية التي استمرت عامين، ثم قام برحلته الثالثة إلى جزر جاوا (إندونيسيا) وأقام حول مدينة مالقا  سورا، ساهم في تحويلها إلى مدينة وميناء تجاري، وفي نوفمبر 1412م يقوم برحلته الرابعة والتي استمرت ثلاث سنوات وكان وجهتها الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية، وفي تلك الرحلة قيل أنه زار مكة المكرمة وأدى فريضة الحج.

أما الرحلة الخامسة فكانت في يوليو1421م، وهي رحلة فُقدت بعض سجلاتها، إلا أن الباحث البريطاني جافين منزيس  Gavin Menzies مؤلف كتاب “الصين اكتشفت العالم عام 1421”  “The Year China Discovered America: 1421″، وهو كتاب صدر عام 2002م، واستغرق تأليفه أحد عشر عاما، وبيعت منه مليون نسخة، وصدرت منه 24 طبعة،  وأثار جدلا واسعا، حيث أكد منزيس أن أسطول “تشنغ خه” الذي ضم 107 سفينة وصل إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأستراليا ، وأن “تشنغ خه” تحرك حول العالم قبل قرن من الزمان وسبق بذلك فرديناند ماجلان، ثم يفسر منزيس أسباب تجاهل “تشنغ خه” بأن الصينيين ذهبوا إلى بلادهم، ولم يستعمروا العالم، لذا لم يتأثر التاريخ،  ويعتقد منزيس أن كل من: “كولومبوس” و”ماجلان” و”جيمس كوك” كان لديهم خرائط رسمها “تشنغ خه” قبل أن يبحروا حيث سبقهم في الوصول إلى شواطيء أمريكا وأستراليا واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.

وقد جاءت وفاة الإمبراطور “يونغلي” عام 1424م، لتتأجل الرحلات  أثناء حكم  الإمبراطور “هونغ شي”   الذي لم يحكم إلا عاما واحدا، جاء بعده الإمبراطور “زوندي” الذي سمح لـ”تشنغ خه” بالإبحار، فجاءت الرحلة السادسة عام 1426م، وفي العام 1431م جاءت الرحلة السابعة والأخيرة، والتي زار خلالها عشرين بلدا، وبعث فيها من معه من المسلمين لأداء فريضة الحج.

كان “تشنغ خه” يتعامل مع السكان الذين نزل سواحلهم برفق، فلم يمارس ضدهم أية أعمال تخريبية أو إبادة على خلاف المكتشفين الأوروبيين، بل كان يدعو إلى الإسلام في رحلاته ويسعى لتثبيته في تلك السواحل، وكتب عن رحلاته” لقد سافرنا أكثر من مئة ألف لي (و هو ما يعادل خمسين ألف كيلو متر) من مساحات البحر الهائلة وشهدنا في المحيط أمواج عظيمة كالجبال ترتفع إلى السماء، ولقد وقعت أنظارنا على مناطق بربرية بعيدة مخبئة تحت أبخرةٌ زرقاء خفيفة وشفافة”، وفي سنوات عمره الأخيرة اختار مدينة “نانجينغ”  بسفح جبل شيتسي لتكون مستقره، وبنى فيها مسجدا، وأقام في تلك المنطقة ذات الطبيعة الخلابة، حتى وفاته عام م1435 عن عمر يناهز الرابعة والستين، وبُني له قبر لم يدفن فيه، ولكن ألقي جثمانه في البحر على عادة قادة البحر العظام.


[1] تشنغ خه هو لقب منحه الإمبراطور “وينغلي” لـ”ما” أو محمود شمس الدين، لكفاءته ودوره في مساندته عسكريا أثناء انقلاب على الإمبراطور “جيانوين”

[1] توجد اختلافات في تحديد زمان ومكان بعض الرحلات، حيث فقدت وثائق رحلتين بحريتين له يُعتقد أنهما وصلتا إلى أبعد الأراضي، يقول البعض إنه توجه إلى فارس، ويرى آخرون أنه اتجه إلى أقصى قناة موزمبيق بدليل اكتشاف مصنوعات صينية أثرية هناك.

[2] تشير بعض التقديرات أن عدد المسلمين في القرن الرابع عشر الميلادي في الصين كان حوالي أربعة ملايين مسلم، وكانت قومية “هان” أو “هوي” التي ينتمي إليها غالبية المسلمين ذات مكانة عالية في إدارة البلاد، وتركز المسلمون في مقاطعة “يونان”، وهي مقاطعة تقع في الجنوب الأوسط من الصين.

[3] كانت أقاليم  أسرة “يوان” في الصين تُدار في اثنتي عشرة منطقة في عهد قوبلاي خان بـ”محافظ ونائب محافظ” لكل منها. ويشير المؤرخ الفارسي رشيد الدين فضل الله الهمذاني، أن ثمانية من هؤلاء الحكام الإثني عشر، كانوا من المسلمين; وفي المقاطعات المتبقية كان المسلمون نواباً للمحافظين

[4] حكمت سلالة “مينغ” الصين في الفترة من 1368م حتى العام 1644م

[5] تُعرف في الأدب الصينية بـ قصيدة “بايزيزان” أو “مديح المائة حرف” ، ومما جاء فيها في وصف النبي-- “معلم كل الملوك وهادي كل الحكماء” و ” الله في قلبك يا سند الفقراء” و ” رحمة للعالمين, على حكمة الأولين” و” قاهر الشرور, دينه نقاء وحق”.

[6] نص هذا المرسوم الإمبرطوري علي:” أعطيك مرسومي الإمبراطوري هذا لكي يُحرس سكنك. لا يحق لأي أحد سواءأ أكان مدنيا أو عسكريا أو مسؤولا أن يتعرض لك بإهانة أو شتم أو سب. ومن يفعل ذلك بعد هذا المرسوم الإمبراطوري سيعاقب كمجرم “