خلق الله – تعالى – الدنيا داراً للابتلاء، فوفَّر فيها كل شروط الابتلاء؛ والحقيقة أننا نظلُّ في هذه الحياة في حالة من الاختبار الدائم، وهو اختبارٌ غنيٌّ بالوجوه والأشكال والمستويات.

ولعلَّ عيش الإنسان في إطار علاقات صحيحة مع ربِّه – عزوجل – ومع الناس والأشياء من حوله؛ يشكِّل الشيء الجوهريَّ في كل الابتلاءات التي نتعرَّض لها، حيث إننا مفطورون على التأثُّر الشديد بالعلاقات التي تربطنا بغيرنا، ومن ثَمَّ كان من الضروريِّ دائماً مراقبةُ تلك العلاقات وترشيدُها وتوجيهها.

ومن وجه آخرَ، فإن مما لا شك فيه أن الإنسان في الماضي كان عاجزاً عن فعل الأسوأ، كما كان عاجزاً عن فعل الأفضل، وذلك بسبب ضآلة الأدوات التي يمتلكها على صعيد البناء وعلى صعيد الهدم؛ إن الإنسان قبل مئتي سنة كان عاجزاً عن قتل الملايين بضغطة زِر، كما كان عاجزاً عن رفع درجات حرارة الأرض أو تلويث الماء والهواء، وفي الوقت نفسه فإنه كان لا يتخيَّل أنه سيكون في وسعه أن يتحدَّث في غرفة مغلقة، فيسمعه مئاتُ الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، أو يتخذ أحدهم قراراً في شمال الأرض، فيَسعد، أو يَشقى به أناس في جنوبها…

ما الذي يعنيه كلُّ هذا؟

إنه يعني: أن القوةَ التي نملكها اليوم يمكن أن تصبحَ مصدراً لتدمير البشريَّة مادياً ومعنوياً؛ ما لم نعمِّق شعورنا بالمسؤولية نحوها، وما لم نعمِّق المشاعر الإيمانية والإنسانية في نفوسنا.

إن إنسان اليوم قد يتحوَّل إلى (وحش مسلَّح) إذا لم يقم بمبادرات كبيرة وكثيرة للمحافظة على النزعة الإنسانية لديه، بغضِّ النظر عن ديانته و(الأيدلوجية) التي يرى من خلالها الحياة والأحياء، ولعلِّي ألمس في هذا الإطار المعاني الآتية:

1 – إن الله تعالى سخَّر لنا ما في السماوات والأرض منَّةً منه وكرماً، كما نجده في قوله – سبحانه –: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[1]، هذا التسخير للانتفاع، له ثمن يجب دفعه عن طِيب خاطر، وهو شكر الله – تعالى – على ما أفاض من النِّعَم ثم المحافظة عليها والعناية بها، على نحوٍ يساعد على استمرارها ودوامها من أجل الأجيال القادمة، وهذا يقتضي صيانةَ ما هو موجود وتنميتَه وتكثيرَه؛ لأن الناس يكثرون، وهم بحاجة إلى المزيد من الموارد، ونجد في هذا المعنى قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن غَرَسَ غَرساً لم يأكُل مِنهُ آدَمِيٌّ ولا خَلقٌ من خَلق الله -عز وجل- إلا كان لهُ صَدَقَة))[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم -: ((إن قامَتِ الساعةُ على أَحَدِكُم وفي يَدِهِ فَسيلَةٌ، فإنِ استَطاعَ ألاَّ تقومَ حتى يَغرسَها فَليَغرِسها))[3].

2 – تدلُّ شواهدُ كثيرة على أن التحضُّر الذي أطنبنا في ذكره لم يكن أكثرَ من قشرة رقيقة، يكمُن خلفها وحشٌ كاسر، ينتظر الفرصة كي ينقضَّ، ويخرِّب ويدمِّر، وما رأيناه في أنحاء العالم من مَجازر يذهب ضحيَّتها نساء وأطفال وشيوخ، وما نراه من التجارة بالأعضاء والأطفال، وما نراه من صور مبتكَرة للغشِّ والخداع والاحتيال…. إن ما نراه من كلِّ ذلك ليؤكِّد المعنى الذي أشرنا إليه؛ وهذا شيءٌ خطير للغاية، حيث إنه يعني أن التقدُّم والازدهار اللذين نراهما في كلِّ مكان من العالم لم يكونا على صعيد البنية الخُلُقيَّة والشعوريَّة لبني البشر، وإنما هو تقدُّم وانتعاش على صعيد المخترَعات وأدوات الرفاهية والزينة وأسباب القوَّة؛ وهذا يشكِّل مأساةً على المدى البعيد!

إننا نريد أن نعمِّقَ النزعة الإنسانية لدى الأجيال الجديدة؛ من خلال التعاطف مع الحيوان ومع الأشياء من حولنا؛ بغيةَ بناء خطوط دفاع متقدِّمة، تَحول دون ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وقد ثبت أن فرضَ القوانين من غير تثقيف وتربية وإحداث تغييرات مهمَّة على صعيد الرُّوح والنفس… لا يكون ذا فائدة تُذكَر؛ ومن هنا فإني أعتقد أن النصوصَ الواردةَ في مديح من يُساعد الحيوان وذكرَ الوعيد الشديد على إيذائه – تستهدف تنميةَ المشاعر الخيِّرة ومشاعر الألفة والرعاية، كما تستهدف كبحَ المشاعر الشرِّيرة. وتأمَّلوا معي قوله – صلى الله عليه وسلم – : ((إن رجُلاً رأى كَلباً يأكلُ الثَّرى منَ العَطَش، فأخذ الرجُل خُفَّه، فجعل يَغرفُ له به حتَّى أَرواه، فشَكَرَ اللهُ له فأدخَلَهُ الجنَّة)) [4]، وفي بعض روايات الحديث أن الذي فعل ذلك بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، ومع ماهي عليه من الإثم والانحراف تجاوز الله – تعالى – عنها بسبب إحيائها لنَفْس، وبسبب ما عبَّرَت عنه من نزوع إلى الخير. وتأمَّلوا معي قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((في كلِّ ذات كَبِدٍ حَرَّى أَجر))[5].

أي أن الله – تعالى – أعدَّ أجراً للإحسان إلى كلِّ إنسان أو حيوان أو طائر أو حشرة؛ وفي هذا توجيهٌ للمسلم أن يتعاطف مع مخلوقات الله تعبيراً عن الرحمة التي في قلبه وشكراً له – سبحانه – على ما سخَّره منها للناس. ولدينا نصوص أخرى عديدة تحذِّر من الاعتداء على الحيوان بأيِّ وسيلة من وسائل الاعتداء؛ وذلك بغيةَ المحافظة على الحياة الفطريَّة، وبغية تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه ما أنعم الله به علينا، وقبل ذلك وبعده تهذيب مشاعرنا ونفوسنا ومحاصرة نزغات الشرِّ لدينا؛ ومن تلك النصوص قوله – صلى الله عليه وسلم –: ((دخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربَطَتها، فلا هيَ أطعَمَتها، ولا هيَ أرسلتها تأكُلُ من خَشاشِ الأرض، حتى ماتَت هَزْلاً))[6]. وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرَّ عليه حمار قد وُسِم في وجهه، فقال: ((لعنَ الله الذي وَسَمَهُ))[7].

نحن جزءٌ من هذا العالم، لكننا الجزء المكرَّم، ومن شُكر التكريم التصرُّف فيه وَفق مرادات الخالق الكريم المنعم.

للحديث بقية

[1] سورة الجاثية: 13.

[2] رواه أحمد وغيره من حديث أبي الدرداء.

[3] رواه أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك.

[4] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

[5] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

[6] رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

[7] رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله.