لم يعش الكثير من الناس في مجتمع سُلطوي بلا رحمة وفي مجتمع ثيوقراطي ديني، ولم ينل الكثير منهم أيضاً الترحيب من المجتمعات الغربية خصوصاً إذا كانوا يحملون أفكاراً متناقضة مع الليبرالية، لكن كتابات “آيان حرسي علي” في الدين والثقافة والعنف -والتي عايشت تلك المجتمعات-لطالما أثارت اهتمام القراء في هذه المجتمعات الغربية.

لقد قطعت هذه الكاتبة الصومالية المُسلمة شوطاً طويلاً في التنقل بين بلدانٍ عدّة، فانتقلت من هولندا للعيش في الولايات المتحدّة الأميركية، بعد أن كانت قد قضت فترة طفولتها بين إفريقيا والمملكة العربية السعودية لتُصبح اليوم أستاذة زميلة في كلية “هارفرد كينيدي” للعلوم، وفي رصيدها ثلاثة كُتب شرحت في معظمهما قناعتها حول الإسلام -وهي الديانة التي تعتنقها عائلتها-، والتي ترى فيها آيان أن الإسلام وصل في تطبيقه إلى مرحلة مُعيبة غير قابلة للإصلاح، منتقدًة تشجيع المسلمين اليوم على العنف والإساءة للنساء وفكرة وجود  القصاص الإلهي. ل

إلا أن أفكار آيان تبدّلت نوعاً ما في كتابها الأخير بعنوان: ” الزنديق” حيث انتقلت حرسي علي من موقع القائل بأن تطبيق الإسلام وصل إلى مرحلة معيبة غير قابلة للإصلاح إلى مرحلة القول أن الإسلام قادر على التحديث وعلى الإصلاح. ففي مقدّمة هذا الكتاب بدت الكاتبة معتدة بنفسها، حين استنكرت موقف أصحاب نظرية النسبية الثقافية الذين يُريدون تكميم الأفواه والذين يؤمنون  بأن الجرائم التي تقوم بها الجماعات المُسلحة في الدولة الإسلامية نابعة من إيمان المسلحين بالعنف وليس بسبب المظالم الاجتماعية والاقتصادية التي دفعتهم لذلك.

في هذا الكتاب تذهب آيان للقول إن الإسلام ليس الدافع الحقيقي للعنف وإنما هو مطية تُجنب المسلحين تشكيك الآخرين بمعتقداتهم وبديانتهم، فغالباً ما يتخذ “الإرهابيون” الغطاء الديني في الظاهر ويقولون إنهم يمارسون العنف وفق قناعات روحية، ولكن هذا الأمر ليس دقيق، فلماذا من يحمل المعتقدات الإسلامية نفسها لا يلجأ إلى العنف كوسيلة فيما يلجأ هؤلاء إلى ذلك؟ ولماذا يكسب الإرهابيون في بعض الحالات تأييد من حولهم فيما يكونون في عُزلة  تامة بحالات أُخرى ؟

ما يُميز كتاب “الزنديق” عن غيره من كتابات “آيان حرسي علي” أنه أكثر دقّة وأكثر تفاؤلاً من كتاباتها السابقة عن الإسلام، حيث تُجادل الكاتبة نفسها وتعرض مجموعة من العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى عملية إصلاح واسعة النطاق في تطبيق الإسلام، مُستشهدة في ذلك بالعوامل التي كانت وراء الإصلاح في تطبيق الديانة المسيحية، وفي مقدّمتها الإصلاحات التي أتى بها مارتن لوثر وما رافقها آنذاك من دور للصحافة المطبوعة التي كانت قد اُخترعت حديثاً في تلك المرحلة. أما اليوم فترى آيان أن الإصلاح على المستوى الإسلامي قد يستفيد إيجاباً من ثورة الاتصالات الإلكترونية.

ولكنّ الكاتبة تعتبر أن أوجه التشابه في مسألة الإصلاح بين المسيحية والإسلام محدودة، فالصلة بين تطور حركة الإصلاح البروتستانتي والحداثة ليست بسهلة، إذا أن حركة الإصلاح البروتستانتي أو الإصلاح اللوثري أدت إلى الإصلاح داخل أوروبا بأكملها وإلى تكريس العصر العلمي العلماني فيما بعد، رغم أنها انطلقت  من مبدأ تعزيز الوحي الإلهي ولم تنطلق من مفهوم إقصاء الكنيسة، ولذلك على كلّ شخص مُسلم يدعو إلى الإصلاح أن يسأل نفسه ما يلي: إذا ما بدأ التغيير الجذري في العالم الإسلامي، فهل  نحنُ فعلاً على يقين بأن ذلك سيؤدي حقاً إلى تكريس الحرية الليبرالية كما هو حال حركة الإصلاح اللوثري،  أو أن ذلك سيؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى ترسيخ الحماس  والتطرّف الديني؟

أجابت الكاتبة عن هذا التساؤل في كتابها وقالت أنها تُفضّل المزيد من الحرية، مشيرة إلى أن هناك بالفعل تقدّماً واضحاً في هذا المجال على المستوى الإسلامي، لكنها رأت أن الاتجاه السائد في الإسلام هو العنف وهو ما كان سائداً في المدينة أيام النبي محمد – (صلّى الله عليه وسّلم) – على العكس مما كان سائداً في فترة تواجد النبي (صلّى الله عليه وسّلم)   في مكّة المكرمة حيث كانت تلك الفترة تتميز بالهدوء وبالتقوى وهو ما لاحظته الكاتبة في الأحاديث النبوية الشريفة، مؤكدةً على أهمية تفضيل نقل الأحاديث النبوية الشريفة التي تتسم بالورع والهدوء والتقوى أكثر مما تتسّم بالعنف والعدوان.

ولسوء الحظ، فإن قلة قليلة من المسلمين تقبل حُجج الكاتبة آيان حرسي علي التي تصرّ على أن تطبيق الإسلام يجب أن يتغير في خمس نقاط هامّة، وقد يتقبّل المسلم المنفتح أربعة نقاط فقط من بين الخمس، ويُمكن أن يُناقشها من دون حساسية وهي: أولاً، يجب أن يتوقف المسلمين عن إعطاء الأولوية للآخرة على حساب هذه الحياة. ثانياً يجب أن يتم تكبيل الشريعة واحترام القانون العلماني، ثالثاً: يجب أن يتم التخلّي عن فكرة الإملاء على الآخرين-المسلمين وغير المسلمين-كيفية التصرّف وكيفية اللباس والشراب وما إلى ذلك من تصرّفات. رابعاً: لا بدّ من التخلي عن فكرة الحروب المقدّسة. أما النقطة الخامسة التي تعتبرها الكاتبة أنها غير مرحبّ فيها للنقاش من قبل منتقديها هي فكرة أن: القرآن الكريم والنبي محمد (عليه الصلاة والسلام) منفتحان على التفسير والنقد.

الكثير ممّن يستمعون إلى النقطة الأخيرة التي ذكرتها الكاتبة يُجيب كالتالي: إذا كان انتقاد النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) يعني إنكاره أنه كان خاتم الأنبياء والرُسل وإنكار أن القرآن الكريم أُنزل عليه بوحي إلهي، فإن الأفضل سبيلاً هو ترك الإسلام تماماً لأنه من دون تلك المعتقدات فإنه لم يبق شيئاً من الإسلام.

تختم الكاتبة كتاب “الزنديق” بالقول: هل هناك أي فرصة لإقناع المسلمين بمجموعة من الأفكار المعاصرة بعيداً عن قانون العقاب الإلهي والحرب، على أن تكون هذه القناعة مبينة على مفهوم علماني متطّور، هل يوجد هناك شخص مؤمن بشدّة في الأصول الإلهية الواردة بالقرآن الكريم ولكنه في الوقت نفسه قادر على الخروج بأفكار واستنتاجات جديدة؟