إشكاليات كثيرة يطرحها “الإعلام الجديد” وما يحمله من فرص ومخاطر، لاسيما على الشباب الذي يبدو غير مؤهل بالدرجة الكافية للتعامل مع آفاق وتحديات “ثورة الإنترنت”، التي قرَّبت المسافات بين الشعوب والثقافات، وكسرت احتكار المعلومات والأخبار. وفي هذا الحوار نطرح بعض هذه الإشكاليات على الباحثة القطرية خولة مرتضوي، المختصة في مجال الإعلام الديني ومقارنة الأديان، وصاحبة العديد من المقالات والكتب حول موضوعات: الدراسات الإسلامية، الحوار بين الأديان، الإسلام والصورة الذهنية، المرأة بين الإسلام والمسيحية، الأديان المقارنة، الإعلام الإسلامي.. ومن كتبها: (دور الإعلام الإسلامي الإلكتروني في تصحيح صورة المرأة المسلمة)، (الصحافة القَطرية والإعلام الجديد)، (مقدمة في دراسة الدين عبر المناهج النفسية).. فإلى الحوار:
– “الإنترنت” قضَت على احتكار المعلومات والأخبار .. ووفرت وسائل جديدة
– “الإعلام الجديد” له قدرة أكبر على تصحيح الصور النمطية عن الإسلام
– مطلوب مادة إعلامية ملائمة للجماهير في اللغة والمحتوى وعصريّة التقديم
– “الإعلام الجديد” يتيح آفاقًا رحبة في معالجة: الأمية الحضارية، التعصب المحلي،التخلف الإعلامي التكنولوجي
لكم اهتمام بـ”الإعلام الجديد” وإشكالياته.. ما المقصود بهذا المصطلح؟
مفهوم “الإعلام الجديد” New Media، الذي يُعرَف كذلك بالإعلام الرقمي Digital Media، وبالإعلام التفاعُلي Interactive Media، وبالإعلام الشبكي Network Media، وبالإعلام الإلكتروني Electronic Media، وبالإعلام السيبرانِي Cyber Media، وبالإعلام التشعبي Hyper Media، وبالإعلام الاجتماعي Social Media؛ يُشيرُ إلى مجموعةٍ من الأنشطة والأساليب التقنيَّة الجديدة التي مكَّنَت من إنتاج وإعداد وبثّ واستهلاك مختلف أشكال المضامين الإعلاميَّة عبر الوسائِط المُتعدَّدة والأجهزَة الإلكترونيَّة المُتَّصِلة مِنها وغير المُتَّصِلة بالشبكة العنكبوتيَّة (الإنترنت)، مُتيحَةً إمكانيَّة الاتصال والتواصُل الجماهيري من خِلال الشبكات الاجتماعيَّة والأجهزة الرقميَّة المحمولة.
وهذا المفهوم الجديد، الإعلام الجديد، يقِف أمام رؤيتين متكاملتين، الأُولى تتمثَّلُ في أنَّ الإعلام الجديد يأتي كبديلٍ للإعلام الكلاسيكي/ التقليدي، والثانية تتمثَّلُ في أنّ الإعلام الجديد هو تطوُّرٌ تكنولوجي لنظيره الكلاسيكي/ التقليدي. ووِفق تلك الرؤيتين، فقد أوضَحَ عالم الاتصال الأمريكي نيكولاس نيغروبونتي Nicholas Negroponte أنَّ الإعلام الجديد يختلِف عن الإعلام الكلاسيكي/ التقليدي في أنَّهُ استبدَلَ بالوِحدات المادِّيَّة القديمة وحداتٍ رقميَّة جديدة. وقد أيَّدَهُ في هذا أستاذ الإعلام الجديد في جامعة سيراكوز الأمريكيَّة فين كروسبي Vin Crosbie مؤكِّدًا أنَّ الإعلام الجديد يضُمُّ في دفتِه مزايا الاتصال الشخصِي والجماهيري مُتجاوزًا سلبيَّات هذين النوعين المختلفين من الاتصال. وذهب كروسبِي في رأيِهِ إلى أنَّ مسارات الإعلام الجديد أخذت ثلاثة أشكال، متخذةً من تقنيَّات الاتصال عامِلًا فاعِلًا بينها وهي، أولًا: إعلام توصُلي شخصي، أي من فردٍ إلى فرد، ثانيًا: وسيلة إعلاميَّة، أي من فرد إلى جماعة، ثالثًا: الشكِل المميَّز للاتصال، أي من مجموعة إلى مجموعة، ومن مجموعةٍ إلى فرد.
وهُنا لابُدَّ من بيان أنَّ مفهوم “الإعلام الجديد” يُعَدُّ من المفاهيم الجديدة التي أثارت الجدَل، فلم يستقِرُّ منظِّرُو العلوم الاتصاليَّة على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ له، وذلك نظرًا لتداخُل الاتجاهات والآراء في دراسته، فهذا المفهُوم مازال تائهًا بين نظريَّات الاتصال والمعلومات وبين بقيَّة العُلوم الإنسانيَّة.
وفي كتابي (الإعلام الجديد والصحافة القطرية) الصادر مؤخرًا، قدَّمتُ تعريفًا للإعلام الجديد؛ فهو، بنظري: “مُصطلحٌ يشمَل كافَّة ضُروب الاتصال الرقمِي التي تُمكِّن الجمهور، أفرادًا وجماعات، من البحث والاستقصاء وإعداد وإنتاج وبَثّ وتبادُل واستهلاك المعلومات والآراء والمنتجات والتفاعُل الآني Immediate interaction مع الجماهير، وذلك باستخدام الوسائِط والأجهزَة الإلكترونيَّة المُتصِلَة بشبكة المعلومات الدوليَّة/ العنكبوتيَّة (الإنترنت)”.
كيف ترون تأثيرات “الإعلام الجديد” على الشباب خاصة، ومجمل الحالة الثقافية عامة؟
لقد برز الإعلام الجديد كلاعبٍ هامٍ ومثيرٍ للجدل في التغييرات الأساسية التي اجتاحت المنطقة العربية والإسلاميَّة، فالحكومات والمنظمات التجارية، على حدٍ سواء، بدأت تُلاحظ وتُبدي اهتمامًا بالقدرات الكامنة التي يوفرها الاختراق المتزايد لمنصّات الإعلام الجديد التي يُمكنها أن تؤدِّي إلى نوعٍ من: التهديد والاستقطاب السياسي أو التعبئة الأيديولوجيَّة أو التحيُّز الديني والمذهبي والطائفي والقبلي، إضافة إلى قُدرتها على نشر الإشاعات والأكاذيب والفتن والترويج للإرهاب والتطرُّف وغيرها من مظاهر الاستهلاك والتأثير السلبي غيرِ الواعي.
إنَّ مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات والمدونات الإلكترونية (الإعلام الجديد)، تعد كنزًا من كنوز الإطلالات الجماهيرية الناجحة للمشاهير وللشباب الموهوبين، لكنها في الوقت ذاته وسائل مثالية لتغذية أوهام ذوي الملكات الهشة وتغذية أناهم، لاسيما وأن الحاجز الرقمي بينهم وبين المتلقين لا يحتاج إلى تنمية مقدرتهم على التواصل المباشر مع مسامع وأبصار من يتحدثون إليهم بطريقة صحيّة معافاة، ومن ثم يصعب اكتشاف فقرهم المعرفي وضحالتهم الثقافية. وبهذا تتضخم أسماؤهم في فقاعات الأوهام الفيسبوكية والتويترية والسنابشاتية والإنستغرامية يومًا بعد آخر؛ مُسْهِمين بالهبوط في مستوى الذوق العام دون محاولات جادة للارتقاء بما يظنونه شغفًا أو موهبة.
يؤسفُنا أنَّ نظرة سريعة وعروجًا مباشرًا إلى منصات “الإعلام الجديد” لعددٍ عشوائيٍ من المستخدمين في محيطنا الإسلامي اليوم؛ تُجزم أننا ما زلنا نعاني من سوءٍ في استخدام التقنيات الحديثة، فهذه المنصّات الإعلاميَّة الاجتماعية كانت منذُ البداية تستهدف عرض فيديوهات شخصية يقومُ المستخدم بالتقاطها لمواضيع جماهيريَّة هامة أو مشاكل مغمورة يكشفها للعلن أو أيٍّ من أوجه الفائدة أو التعلُّم أو حتى التسلية المعقولة. إلا أنَّ استخدام الغالبية العُظمى، وكما هُو ملحوظ؛ يدخلُ في باب التسلية والتسخيف غير المعقول وغير المستهجن والتأثير السلبي الذي انعكس في شكلِ تحوُّلاتٍ مختلفة في بُنية المشهد الثقافي التي تشهدها المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة الحديثة.
وهنا أؤكَّد أهميةَ تظافر الجهود لتحقيق الوعي، بالتربية ومحو الأمية الإعلامية، وفهم كيفية وآلية استخدام هذا المتراس الجديد/ الإعلام الجديد، بالشكل الصحيح النافع، والعمل على استيعاب الشباب لآليات ومقتضيات عصر العولمة والتفاعل الحيوي والأصيل معها، ومساعدتهم للتصدِّي لأشكال الغزو والاستعمار الحضارية والثقافية الجديدة، وتحقيق متطلبات المواطنة الصالحة وتنمية الوعي بالثقافة والخصوصية المجتمعية الأصيلة وعلاقتها بالمتغيرات الجارية.
كيف يمكن توظيف “الإعلام الجديد” لإثراء الفكر وتمتين التواصل بين الناس؟
لقد قامت صفحات ووسائط الإنترنت بإضعافِ بيروقراطيَّة الأنظِمَة السياسيَّة القمعيَّة، وذلك لِصالِح قوى المجتمع المدنِي المختلفة؛ فثورة الإنترنت ومنتجاتُها قضَت تمامًا على احتكار المعلومات والأخبار وصبغِها بشكلٍ يُفيد الجهَة المتحكمَة، موفِّرةً وسائل اتصال جديدة يستحِيل التحكُّم بها بشكلٍ مباشر.
وعليه، فإنَّ ظهور منصَّات التواصُل الاجتماعِي آذنَت بتحرُّر الفرد من أجهزة التوجِه والتحكُّم الإعلامي التي سيطرَت على عقلِهِ لمُدَدٍ زمنيَّة طويلة من حياةِ الإنسانيَّة، فالفرد وهو المُستقبِل في العمليَّة الاتصاليَّة، ومِن خِلال ميِّزتَيّ الفرديَّة Individuality والتخصِيص Customization، أصبَحَ بإمكانِهِ أن يتحوَّلَ إلى مُرسِلٍ أو قائِمٍ بالاتصال، فبإمكانِه اليوم أن يُسيطِر ويتحكَّم في إرسال واستقبال رسالتِه الإعلاميَّة دونَ عوائِق والتفاعُل معها من غير تدخُّلِ طرفٍ أو جهَةٍ خارجيَّة.
يقُوم “الإعلام الجديد” في عالم اليوم بمجموعةٍ واسعةٍ من الوظائِف المميَّزة والمهام المُتعدِّدة للفرد والمجتمع على حدٍ سواء، وذلك جنبًا إلى جنب الوسائِل التقليديَّة/ الكلاسيكيَّة. وننوِّه إلى أنَّهُ يكثُرُ الخَلط بينَ وظائِف وسائِل الإعلام وتأثيراتها المختلفة على الفرد والمجتمع، فالوظائِف هي الدور العام الذي تقُومُ بِهِ هذه الوسائِل المختلفة، أما التأثيرات فهي نتاجٌ (ثمرات ومُخلَّفات) لهذِهِ الأدوار المنوطَة.
وبناءً عليه، يُمكن التفكير في وظائِف وسائِل الإعلام المختلفة على النحوِ التالي، أولًا: وظائف فرديَّة مُقابِل الوظائِف المُجتمعيَّة، حيثُ لابُدَّ من التفريق بين الوظائِف التي يُحققها الإعلام للفرد وبين الوظائِف التي يُحققها للمجتمع.
فمِن الوظائف التي يُحققُها للفرد: التماسُ المعلومات ومُراقبة البيئة المُحيطَة، تحديد وبناء وتطوير فهمه واتجاهاتِه ومِيُولِه وتحقيق احتياجاتِه ورغباتِه، تطوير مفاهيمِه عن ذاتِه (أي، فهم النفس عبر: استكشاف الواقِع، وعقد مجموعة من المقارنات الأضداد، الاسهام في تجويد حياتِه العلميَّة والعمليَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة، وتسهيل تفاعُله مع المحيط الواقعي والافتراضِي الذي يعيشُ فيه)، الهُروب من الاغتراب والتوتُّر، تكوين طقُوس يوميَّة تمنحُهُ الشُعُور بالأمن والنِظام.
ومِن الوظائِف التي يُحققُها للمجتمع؛ أولاً: المحافظَة على أمنِهِ وثباتِه واستقرارِه وتحقيق التغيير الإيجابِي والتنمية الاجتماعيَّة المنشُودَة. ثانيًا: وظائف المُحتوى مُقابل وظائف الوسيلة، فعِندَ تدارُس وظائِف وسائِل الإعلام الجماهيريَّة (الجديدة والتقليديَّة) لابُدَّ من التمييز بين المضمون الذي تُقدِّمُهُ الوسيلَة وبين خصائص وميِّزات الوسيلة المُستخدَمَة. ثالثًا: وظائِف علنيَّة (ظاهرة) مُقابِل وظائف مُستَتِرَة (كامِنَة)، يجِب التمييز بينَ الوظائِف والأدوار الواضحة لوسائِل الإعلام في حياة الفرد والجماعَة وبينَ المخفيَّة مِنها، فمِن الأدوار الواضحة الإيجابيَّة: الإخبار والتعليم والإقناع والتوجيه والترفيه وغيرها، ومِن الأدوار المخفيَّة: حشد وتعبئة الرأي العام Mobilization of Public Opinion والدعاية السياسيَّة Political Propaganda والإغراق في التسلية والتنميط وغيرها من الأدوار شديدة السلبيَّة.
هل اهتز عرش الإعلام التقليدي بظهور “الإعلام الجديد”، أم إنَّ لكل منهما جمهوره؟
هذا صحيح، اهتزّ عرشُ الإعلام التقليدي بشكلٍ جلي؛ فقد لعبت المنصَّات الإعلاميَّة الجديدة، دورها الكبير في تقويض هذِهِ الهُوَّة الفسيحة بين البشريَّة جمعاء، هذه الهُوَّة التي كانت تصنعُها المسافات البعيدة من جهة، والنُظُم السياسيَّة من جهَةٍ أُخرى، ففي عصر الإعلام التقليدي/ الظلام الإسفيري السابق، كانَت الجماهير تتلقى المضامين الإعلاميَّة مباشرةً بعد موافقة السُلطات السياسيَّة/ الحكوميَّة على بثِّها، وفي هذا، يقول الكاتب الأسترالي الأمريكي بيتر ديوكر Peter Drucker في كتابه (The Age of discontinuity): “تضليل الجماهير لا يُمثِّل أول أداة تتبنَّاها النُخَب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية، فالحُكَّام لا يلجؤون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العمليَّة التاريخيَّة. أما قبل ذلك، فلا وجود للتضليل بالمعنى الدقيق للكلمَة، بل يجد بالأحرى قمعًا شاملًا؛ إذ لا ضرورة هُناك لتضليل المُضطهَدين عندما يكونُون غارقين لآذانهم في بؤسِ الواقع”.
أما اليوم، فهذه السُلطات الحاكمة فقدت، كُليًا، زمام السيطرة على منابر الإعلام، فالمنبر الإعلامي التقليدي/ الكلاسيكي كان في ذلك الزمن القريب البعيد سهل التطويع لأوامر وقوائِم الباب العالي في كُلِّ مكان، ولكن مع استفحال ظاهرة الإعلام الجديد أصبح تنظيم مرور الرسائل الإعلاميَّة وفلترتها وقصُّها وتهذيبها صعبًا أمام السُلطة، فكُل فردٍ في هذا الزمن أصبح أُقنومًا إعلاميًا منفصلًا، يُمكنُهُ أن يُنتج الرسالة ويُرسلها عبر عدد كبير من القنوات الإعلاميَّة الجديد بأقَل تكلفة ورُبما بأوسَعِ انتشار وتأثير، لذا أصبحت السُلطات السياسيَّة / الحكوميَّة مهتمة بما يُكتب في فضاء الإعلام الجديد، فالجماهير العالميَّة أصبحت إعلاميَّة ويُمكنُها في أيِّ لحظة أن تُظهِرَ الحقيقة الغائبة عن الظهور، بسبب الحَجب الحُكومي/ السياسي، كما أنَّ بإمكانِها، في المُقابِل، أن تُدافعَ عن نهجِ النظُم الحكوميَّة/ السياسيَّة وتذودُ عنها إلكترونيًّا بكُلِّ بسالة في حالة اندلاع أيِّ خطرٍ أو تهديد، وفي ذلك يقول الطبيب والمؤرِّخ الفرنسي غوستاف لوبون Gustave Le Bon في كتابه (سيكولوجيا الجماهير): “لقد أصبحت مراقبة الرأي العام اليوم هي الشُغل الشاغِل للصحافة والحُكومات؛ فأصبحَت مشغُولة بمعرفة الأثر الذي يُحدِثُهُ حدثٌ ما أو برنامجٌ تشريعِيٌّ ما أو خِطابٌ ما على الرأي العام. وهذا ليسَ بالأمر السهل، ذلك أنَّهُ ليسَ هُناك من شيءٍ أسرَعُ تحرُّكًا وتغيُّرًا من فِكر الجماهير، فنحنُ نراها تستَقبِل باللعنَات ما كانَت قد صفَّقَت لهُ بالأمس”.
بظهور “الإعلام الجديد”، هذا التطوُّر الانقلابِي الاتصالي، حُقِقَ جُزءٌ يسير من حُلم الديموقراطيَّة لكثيرٍ من الشُعوب العالميَّة، الديموقراطيَّة التي انتزعتها الشعُوب انتزاعًا عنيفًا من أفواه الأنظمة الدكتاتوريَّة التي حاولت مرارًا وتكرارًا أن تُقنِّن الفضاء الإلكتروني وتُضيِّق على رعاياها الخِناق الإعلامي، إلا أنَّها فشلت كُلَّ مرة في حجب هذه الرحابة الاتصاليَّة التي يمنحُها الإنترنت، وفشلت في تعتيم الحقيقة أمام الرأي العام المحلي والعالمي.
إذن، ثمَّةَ فرقٌ شاسِعٌ بين مهنة الصحافة في مرحلة ما قبلَ الإعلام الجديد، ومرحلة ما بعدَ الإعلام الجديد، حيثُ أصبحت مهنة المتاعِب والتضحيات أقَلُّ تعبًا من ناحية وأكثر مسؤوليَّة من ناحيةٍ أُخرى، فالصحافة المُلقَّبَة عُرفًا ببلاط صاحبة الجلالة (لقب التشريف والتكليف معًا) عليها ألا تتحوَّلَ إلى بلاط صاحبة (الضلالَة) بفعلِ تلوُّث أقلام بعض الصحفيين غير المهنيين الذين يُزيفون الحقائق ويُصدرون الكذب والإشاعة ويُضللون الرأي العام لأهداف غير نبيلة. ففضاءُ الإعلام الجديد، فضاء الثُنائيَّات والمُضادَّات، مهَيأٌ، بشكلٍ كبير، لإحداث تنظيم أو حتى فوضى خلّاقة، فهي، إذن، نظامٌ دينامِيٌ شديد التعقيد. وضمن هذا النظام، ومع ما يتضمَّنُهُ من عناصِر ماديَّة ورمزيَّة، تحدُث الكثير من السُلوكيَّات غير المنظمة، التي تصدُرُ بشكلٍ أساسِي من المُرسِل/ القائِم بالاتصال، فإنَّ توفير الأدوات الإعلاميَّة الجديدة والحُريَّات التامَّة الممنوحَة للصحفيين والإعلاميين- دونَ التأكيد على أهميَّة الحفاظ على المهنيَّة والأخلاقيَّات الإعلاميَّة، ودُونَ الحرص على بثّ المعلومات والأخبار الدقيقة الصحيحة وتوجيه الأفكار والرسائِل الحضاريَّة البُنيويَّة النهضويَّة- لن يُغَيِّر من واقِعنا الإعلامِي العالمي، المأسُوف عليهِ، شيء، بل سيزيدُهُ تردِّيًا وتراجُعًا.
اليوم، نحنُ بحاجَةٍ ماسَّة إلى جهودٍ بحثيَّة ومهنيَّة جادَّة نحوَ تغيير النظام الإعلامي العالمي، وذلك لتحقيق نوعٍ من التكافُؤ النِسبِي بين التدفُّق الإعلامِي الصادِر منَّا وإلينا، بحيث يستطيع المُرسِل والمُتلقِّي العرَبِي أن يٌقيمَ المُعادلَة الصحيحَة بين هُويَّتِه وولائِه وانتمائِه، وبينَ تفاعُله الحيوي مع مُختلَف الثقافات والأيدولوجيَّات العالميَّة، تكافؤٍ يُمَكِّن الصحفي والإعلامي العرَبِي من التحوُّل من مرحلة استقبال واستهلاك تقليد المنتج الإعلامي الغربي إلى مرحلة تصدِير وإنتاج وابتِكار المنتج الإعلامي العربي وترك بصمات مؤثِّرَة وواضَحَة في الفضاء العالمي المفتوح.
من الملاحظ أن الشباب يبدأ في التعرُّض لتأثيرات “الإعلام الجديد”، الفكرية والثقافية والدينية، من قبل أن يكتسب “الحصانة” الكافية، و”المناعة الذاتية” اللازمة.. فكيف نتفادى هذه التأثيرات السلبية؟
نعيشُ اليوم في قريةٍ عالميَّة تسُودُها بيئةٌ مُشبعَةٌ بالوسائل الإعلامية المختلفة التي تبُث مضامينَ مأدلجَةً ومُسيَّسة تحقِّق من خِلالها أهداف واستراتيجيات ورؤى ومصالِح القائم على الاتصال في هذه الوسائِل. ومن هُنا، تبرُز أهميَّة الوعي بالتربية والثقافة ومحو الأُميَّة الإعلاميَّة، فهي أنجعُ سبيلٍ لتفكيك الرسالة الإعلاميَّة والتعرّف على هدف تصنيعها وبثِّها وفهم المُنتَج الإعلامِي بشكلٍ متبصَّر، وبالتالي فهم كيفيَّة وآليَّة استخدامها بالشكل الصحيح النافِع.
وتعتمِد مبادئ “التربيَة الإعلاميَّة” اعتمادًا كُليًّا على الاتصال، وذلك مِن أجل تحقيق عددٍ من الأهداف الإعلاميَّة التربويَّة المُعدَّة خِصيصًا لطلبَة العِلم، والتي تُقدِّمُ بدورِها مجموعةً مِن المهارات والمعلومات والأساليب الضَرورية للتعامُل الأمثَل مع وسائِل الإعلام الكلاسيكية والجديدَة وما تبُثُهُ هذه الوسائِل المتنوِعَة من مضامِين واضحَة ومُتسَتِّرَة. وعليه، فإنَّ مفهوم “التربيَة الإعلاميَّة” يُعتبَرُ مفهُومًا شُموليًّا يُعنَى بالاستفادة والفهم والتقييم والنقد الإعلامِي والوعِي، والتعرّف على جوانِب الاستفادة والضَرَر مِن هذِهِ الوسائل المُختلِفَة.
وهنا أشير إلى أنَّ عناصِر “التربية الإعلاميَّة” الرئيسيَّة تتكوَّن من التالي: أولًا: الوعي بتأثير وسائل الإعلام على الفرد والمجتمع، ودفع الأفراد لاتخاذ مواقف معينة بناءً على تجارب التأثر الإعلامي السلبية والإيجابية. ثانيًا: استيعاب عملية الاتصال الجماهيري بشكلٍ واعٍ وشامِ، وربطها بمقومات التربية الإعلامية المختلفة. ثالثًا: اعتماد استراتيجيات وأساليب متنوعة ومناسبة تقوم بدور تفسير وتنقيح المضامين الإعلاميَّة المختلفة، وفهم الرسائل العميقة التي تقدمها للجماهير. رابعًا: مراعاة الجوانب الجمالية عند فهم واستيعاب المضامين الإعلاميَّة المختلفة، وذلك تبعًا لاختلاف أذواق الجماهير.
وعليه، فإنَّ “التربيَة الإعلاميَّة” تقومُ على مجموعة من المَحاوِر والمُرتكزات العمليَّة، الملخَّصة في: دراسَة تكنولوجيا/ تقنيَّة المعلومات، طُرُق التعامُل والاستفادَة من وسائِل الإعلام الكلاسيكيَّة والجديدَة، حارس البوابَة الإعلاميَّة/ القائِم على الاتصال، الوعِي الإعلامِي، الاستخدام الآمن لوسائِل الإعلام المُختلِفَة، إعلام المواطن/ الإعلام الشخصي، استراتِيجيَّات وسائل الإعلام الجديدة/ الأجندَة الإعلاميَّة لكُل وسيلَة، وغيرِها من المُرتكزات والمحاوِر الضروريَّة التي من شأنِها أن تُحقِّق هدَف التربيَة الإعلاميَّة وتُوعِّي الشباب عِند تعرُضِهِم واستفادَتِهِم من الرسائِل الإعلاميَّة المعروضَة في مُختَلَف الوسائِل الإعلاميَّة.
ما الآفاق التي يتيحها “الإعلام الجديد”.. سواء على مستوى الفرد أو المجتمع؟
ثمة آفاقٌ كثيرة ورحبة؛ أبرزها معالجة الأمراض الثقافيَّة والاجتماعيَّة والنفسيَّة التي يُعانِي منها جيل الشباب، مثل: مشكلة الأُميَّة الحضاريَّة والتعصُّب المحلِّي، التخلُّف الإعلامي التكنولوجي، الأُميَّة السياسيَّة، مشاكِل الحوار مع الآخرين. وكذلك، تحقيق أهداف تربويَّة وتنمويَّة عظيمة، تكمُن في: تعبئة الفرد والمجتمع بالشكل الإيجابي النافِع لمواجهة الأحداث الجارية والمُحتملَة والطارئَة في محيطه (فهم ما يجري وتقدير تبعَات ما يجري)، استيعاب الفرد والمجتمع لآليّات ومُقتضيات عصر العولمَة والتفاعُل الحيوي والأصِيل معها ومساعدتهم للتصدِّي لأشكال الغزو والاستعمار الحضاريَّة والثقافيَّة الجديدة.
إضافةً إلى تحقيق متطلبات المواطنَة الصالحة، وتنمية الوعِي بالثقافة والخُصوصيَّة المجتمعيَّة الأصيلَة وعِلاقتها بالمتغيرات الجارية، وإكساب المجتمع ككُل مهارات الاتصال الفعّالة التي تساعدُهُ في النماء اجتماعيًّا وثقافيًّا، وتمكِّنُهُ بالتالي من مواجهة التحدِّيات التي تقطَعُ بِهِ بشكلٍ فعّال.
هل “الإعلام الجديد” له قدرة أكبر من الإعلام التقليدي، من حيث الإسهام في تصحيح الصور النمطية عن الإسلام؟
نعم، له قُدرة أكبر على تصحيح الصورة، كما أنَّ لهُ قدرة على تكوين الصورة النمطية السلبية. إنَّهُ في الوقت الذي تعلو فيه نداءات بعض الجهات العالمية لتكريس مزيدٍ من الجهود نحو ترسيخ قيم التعايُش، والتسامُح وحوار الحضارات، وتعزيز ثقافة السلام القائم على الإنصاف، والعدل والاحترام المتبادل؛ نلحَظُ أنَّ هُناكَ تصعيدًا مخيفًا تلعبهُ وسائل الإعلام الغربية ومُلحقاتها العربية الموالية، نحو تعتيم وتشويه الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين، الأمر الذي يُحَتِّم على الإعلام الإسلامي الإلكتروني أن يقوم بدور تصحيح هذه الصورة، وإعلاء الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين، ونَفِي كُل أشكال العُنصريَّة والتمييز التي أضَرَّت الشعوب الإسلامية في كُلِّ مكان.
وأشير إلى أنَّ توجُّهات وأهداف وسائل الإعلام التقليدية والجديدة تختلف باختلاف مساعي مُلاّكِها والقائمين عليها.. وكُلما كانت المادة الإعلامية المقدّمة عبر الوسيلة الإلكترونية/ الجديدة ملائمة للجماهير في مستوى اللغة والمحتوى وعصريّة التقديم؛ ازدادت فُرَص تحقيقها للتأثير المطلوب.