تُوفي، يوم السبت 30/6/2018 ، العلامة البروفيسور المعمر الدكتور فؤاد سزكين، عن عمر ناهز الـ94 عامًا، بمستشفى في مدينة إسطنبول التركية. ويعتبر فؤاد سزكين ،التركي الأصل العالمي العطاء، من أبرز مثقفي الإنسانية وعلماء هذا العصر. وهو مؤسس معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت عام 1982.

رائد تاريخ العلوم العربية والإسلامية

والبروفيسور فؤاد سزكين هو رائد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فهو الذي أثبت اكتشاف العرب والمسلمين للعلوم، وألف في ذلك مجلدات كثيرة. ولد بولاية “بتليس” جنوب شرقي تركيا، في 24 أكتوبر 1924، وهو أحد أبرز الضالعين في التراث العربي والإسلامي، على مستوى العالم.

ويعد سزكين، أحد طلاب المستشرق الألماني هلموت ريتر، الذي أقنعه بدراسة التاريخ الإسلامي، حيث بدأ بتعلم اللغة العربية، وحصل على الدكتوراة في 1954 بأطروحة عنوانها “مصادر البخاري”، تدفع بأنه، خلافاً للاعتقاد الشائع بين المستشرقين الأوروبيين، فإن المجموع من الحديث في صحيح البخاري كان يعتمد على مصادر مكتوبة تعود إلى القرن السابع الميلادي وكذلك على التواتر الشفهي.

وأصبح سزكين أستاذاً في جامعة اسطنبول من عام 1954، وكان اهتمامه منذ وقت مبكر بمسألة نشر التاريخ الحقيقي للعلوم العربية في العصر الذهبي الإسلامي وتأثيرها على بلاد الغرب.

غادر تركيا إلى ألمانيا بعد أن منعته حكومة الانقلاب العسكري عام 1960 مع 146 أكاديمي تركي من الاستمرار في جامعات البلاد، ليواصل دراساته في جامعة فرانكفورت.

وفي العام 1965، قدّم سزكين، أطروحة دكتوراه ثانية عن عالم الكيمياء العربي، جابر بن حيان، وحصل على لقب البروفيسور بعد عام، وتزوج بعد فترة وجيزة المستشرقة أورسولا سزكين.

وقبل وفاته، كان يواصل كتابة المجلد الـ18 من “تاريخ التراث العربي” الذي صدرت أولى مجلداته في 1967، ويعد أوسع مؤلف يتناول تاريخ البشر.

أتقن 27 لغة وحاز جوائز عالمية

أتقن المؤرخ التركي 27 لغة، من بينها السريانية والعبرية واللاتينية والعربية والألمانية، بشكل جيد جدًا. وأنشأ في عام 2010 وقف أبحاث تاريخ العلوم الإسلامية بهدف دعم أنشطة متحف العلوم والتكنولوجيا الإسلامية في اسطنبول.

وحصل على جوائز وأوسمة دولية عديدة طيلة حياته، من مؤسسات مختلفة مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع اللغة العربية بدمشق، ومجمع اللغة العربية في بغداد، وأكاديمية العلوم في تركيا.

وتوّج بالدكتوراة الفخرية من قبل جامعات عديدة، مثل “أتاتورك” في ولاية أرضروم التركية، و”سليمان ديميرال” في ولاية إسبارطة، وجامعة اسطنبول، فضلًا عن درع تكريم “Frankfurt am Main Goethe”، وميدالية الخدمة الاتحادية للدرجة الأولى بألمانيا، والجائزة الرئاسية الكبرى للثقافة والفنون بتركيا.

سعى لدى الدول العربية إلى تطبيق فكرته الداعية الى تأسيس معهد دولي متخصص بتاريخ العلوم العربية الأسلامية، وقد شارك أربعة عشر بلداً عربياً فضلاً عن المنظمات والأصدقاء والمشجعين من العالم الأسلامي بالتبرع بثلث الأموال المقترحة كرأسمال أولي للجمعية ومنها العراق، وتبرعت الكويت وحدها بتأسيس المبنى المناسب قرب الجامعة وتجديده بالشكل الذي يلبي متطلبات المعهد.

 

صورة مقال رحيل المؤرخ والعالم الشهير "فؤاد سزكين"

وفي عام 1982 تم تأسيس (معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية) في اطار جامعة فرانكفورت، وقد منح فؤاد من قبل رئيس دولة المانيا وسام الاستحقاق من الدرجة الاولى في نفس العام، وفي سنة 1978 كان أول شخص يحصل على جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية، وتلا ذلك سنة 1979 حصوله على ميدالية گوته من مدينة فرانكفورت.

ويقول عنه الذين عرفوه عن قرب، أن الإنسان يشعر حينما يسمع فؤاد سزكين أو يحاوره أو يقرأ إنتاجه العلمي الرصين أنه أمام عالم فذ عبقري، وقائد كبير يحمل بيده عاليا وباستماتة مشعل الحضارة العربية الإسلامية على ذرى أعلى قمم الحضارات الإنسانية. وبوفاته ،سيبقى نموذجا للأجيال الإنسانية والمسلمة والعربية في علو الهمة والإنصاف والتعريف ببر اعة بالحضارة الإسلامية وعلومها وفنونها، ونموذجا للعلامة المدافع ببراعة عنها.

سزكين و البخاري

نشر سزكين كتابين عن البخاري مأخوذين عن أطروحته للدكتوراة ، وجهت له بسببهما انتقادات شديدة، حيث ذكر أن البخاري فى كتابه “الجامع” قد برهن على أنه ليس عالم الحديث الذى طور الإسناد، بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد، وأن الأسانيد ناقصة فى حوالي ربع المادة، وقد أطلق على هذا الأمر، ابتداء من القرن الرابع، اسم “التعليق” (وهو اختصار الإسناد بحذف بعض شيوخ المصنف، وربما وصل الحذف إلى الصحابي )، وبهذا يفقد كتاب البخاري كثيرا من سمته مصنفا جامعا شاملاً.

ويعتبر الدكتور أكرم العمري، أستاذ التاريخ بجامعة بغداد أول من قدم دراسة نقدية لكتاب “تاريخ التراث العربي” ،ونشرها في مجلة “المورد” العراقية في فبراير 1973. وقد ركز فيها على الجزء الأول الذي تناول التفسير وعلم الحديث، وذكر في 23 ملاحظة وصحّح 56 خطأ مطبعيا وعلميا.

ورغم كل الأخطاء والملاحظات التي شملها هذا الجزء إلا أن الدكتور العمري اعترف بالقيمة العلمية للكتاب ونوّه بالجهود الجبارة التي بذلها المؤلف في إعداده هذه الموسوعة. وقد قال في هذا السياق: “والحق أن الكتاب ثمرة جهود ضمنية وصبر طويل وتمرس كبير فحق للناطقين بالضاد والمعنيين بالتراث الفكري أن يرحبوا بمؤلفه ويقوّموا جهده بما هو أهله، ويتناولوه بإمعان النظر فيه وتدقيق مادته، فهو يحتاج إلى القراءة المتفحصة الناقدة لسعة نطاقه ووفرة مادته وكثرة أحكامه، وقد اعتصر فيه مؤلفه جهده وجهود من عنى بكتب التراث قبله من العرب والمسلمين والمستشرقين.

كما نشر الباحث الدكتور حكمت بشير بحثا في “مجلة الجامعة الإسلامية” بالمدينة المنورة عنوانه “استدراكات على تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين في كتب التفسير”. وأصدر الباحث نجم عبد الرحمن خلف كتابا عنوانه” استدراكات على تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين في علم الحديث”، ونشره في دار البشائر الإسلامية. كما نشرت بعد ذلك دراسات وتقاريظ عديدة حول هذا الكتاب.

خرائط العالم عربية الأصل

من بين ما عمل عليه “سزكين”، قيامه بإثبات أن خرائط العالم والخرائط الجزئية الأوروبية حتى بداية القرن الثامن عشر الميلادي ترجع إلى أصول عربية، ففى عهد الخليفة المأمون فى بداية القرن التاسع الميلادي قام على سبيل المثال، نحو 70 جغرافيًّا برحلة استغرقت عدة سنوات جالوا خلالها في السفن وعلى ظهور الخيول والفيلة مختلف أرجاء أفريقيا وأوربا وآسيا.

كما دافع سزكين بشدة عن مبدأ وحدة العلوم، واعتبرها تراث البشرية العلمي الذى ينمو على دفعات متواصلة، وهو يرى مهمته فى أن يبين مساهمة العرب فى تاريخ العلوم العام، ويبين ذلك للمسلمين أنفسهم كى يعطى المسلمين بذلك ثقة بالنفس.

وفي عام 1983، أسس الدكتور سزكين متحفا فريدا من نوعه داخل معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية، فرانكفورت، والجمع بين أكثر من 800 نسخة طبق الأصل من الأجهزة العلمية التاريخية والأدوات والخرائط، ومعظمهم ينتمون إلى العصر الذهبي للعلوم الإسلامية. كما أسس متحفا مشابها له في 25 أيار 2008 في اسطنبول وقد تم تدشينه من قبل رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان.

وزار الدكتور سزكين عدة دول عربية، وقدم مجموعة من المحاضرات التي تناولت 4 قضايا كبرى. تمثلت القضية الأولى في ضبط منهجية البحث في مجال التراث العربي، كما تبرزه عناوين هذه المحاضرات الثلاثة: كتاب “تاريخ التراث العربي” أهدافي ومنهجي في إعداده، أهمية الإسناد في العلوم العربية والإسلامية، مصادر كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني. وتطرق إلى إسهامات العلماء المسلمين والعرب في تطوير العلوم خاصة في الطب، علم الكيمياء، الرياضيات، وعلم الفلك.

يشتغل 17 ساعة في اليوم

في عام 1947 شرع سزكين في جمع مادة علمية لوضع مستدرك لكتابه “تاريخ الأدب العربي” لصاحبه المسترق الألماني كارل بروكلمان. غير أنه وجد مصادر ومخطوطات كثيرة فاقت تصوراته وتجاوزت أمنياته، ففكر في الاشتغال في مشروع علمي جديد.

اندمج في مشروعه العلمي فكان يشتغل 17 ساعة في اليوم، فجمع المخطوطات العربية المتفرقة في المكتبات الخاصة والعامة في الشرق والغرب. فنسخها وترجمها إلى اللغة الألمانية واستخرج كنوزها واقتبس من دررها ثم نشرها في أجمل صورها. كما استعان كثيرا ببحوث ودراسات أعدها المستشرقون المختصون في هذا الحقل المعرفي.

لقد أرّخ الدكتور سزكين للعطاء الإسلامي في مختلف الآداب والعلوم، فلم يترك فرعا من فروع المعرفة التي اشتغل بها العلماء المسلمون إلا وكتب عنه، ذلك أن التطور العلمي عند المسلمين – كما قال سزكين- ” لا يتوقف عند بعض فروع العلم، بل إن هذا التطور شمل جميع نواحي العلوم تبعا لقانون تطور العلوم، أي أنه لا يمكن أن يتطور العلم في ناحية معينة دون أن يواكبه تطور في النواحي الأخرى من العلوم.”

وهكذا نشر الأستاذ سزكين موسوعته “تاريخ التراث العربي” في 12 مجلدا شملت كثيرا من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات التي أنتجها العلماء المسلمون. وقد قسم موسوعته حسب التخصصات العلمية، منها:

– العلوم القرآنية، علم الحديث، التاريخ، الفقه، علم الكلام (المجلد 1) طبع سنة 1967.

– الشعر العربي من الجاهلية إلى سنة 430 هـ (المجلد 2)، طبع عام 1975.

– الطب، الصيدلة، البيطرة، علم الحيوان (المجلد 3)، طبع سنة 1970.

– الكيمياء، الزراعة، علم النبات (المجلد 4)، طبع سنة 1971.

– علم الرياضيات (المجلد 5)، طبع عام 1973.

– علم الفلك (المجلد 6)، طبع سنة 1978…الخ.

أحد مؤسسي الدراسات الشرقية في الغرب

ويقول المؤرخ الجزائري البروفيسور مولود عويمر أن المعاهد الإستشراقية المعروفة في الغرب لم يكن يديرها فقط المستشرقون الأوروبيون، وإنما ثمة مراكز وأقسام للدراسات الشرقية أخرى أسسها علماء عرب أو مسلمون في رحاب الجامعات الأوروبية والأمريكية، وأشرفوا فيها على تكوين أجيال من المستشرقين الأوروبيين والباحثين العرب المختصين في مجال الدراسات العربية والإسلامية، ومن بين هؤلاء الأساتذة البارزين: فؤاد سزكين في ألمانيا و ألبرت حوراني في إنجلترا وفيليب حتّي في الولايات المتحدة الأمريكية ومحمد أركون وعلي مَراد في فرنسا، …الخ.

ويتساءل عويمر هل كانت لهذه البيئة الغربية تأثير على منهجهم العلمي وإنتاجهم المعرفي وعلاقتهم الوجدانية بثقافتهم وصلتهم بمصير أمتهم، أم على العكس من ذلك، استفادوا من الإمكانات المادية والفرص المتاحة لخدمة تراثهم والتعريف بحضارتهم؟

لم يكن الدكتور سزكين حالما يزعم أنه قادر على تحقيق مشروعه العلمي الكبير حول إحياء التراث العربي بمفرده، فقد لقيت مساعيه الحثيثة تجاوبا من بعض الحكومات العربية واستطاع أن ينجز أعماله بصرامته وهمته وجديته المعهودة، وينظر بتفاؤل إلى مستقبل المسلمين شريطة أن يرتقوا إلى مستوى التحديات الراهنة مستلهمين من تراثهم الحضاري ومستفيدين من التطور الحضاري القائم ومشاركين فيه بفعالية، فبذلك يسيرون حقا على خطى أجدادهم الذين تقدموا بفضل التزامهم بالدين وتمسكهم بالعلم.

وقد رحل سزكين وهو يردد: ” إنه لا يسرني بأن تكون الأعمال الخطرة للعلماء المسلمين والعرب في تاريخ العلوم واسطة لمجرد الفخر عند أحفادهم اليوم، ولكنني أتمنى أن يفهم الأحفاد هذه الظاهرة في تاريخ العلوم حق فهمها وأن يستدبروا كيف استطاعت هذه الأمة أن تبدأ من وسط يحسب فيه بالحساب الأصبعي ثم أخذت كل العناصر الإيجابية عند الأمم الأخرى بكل استعداد للأخذ دون أي خوف أو تردد ودون أي عقدة نفسية..بل بالثقة بالنفس والاعتماد على القدرة الإنجازية للفرد ليستطيع أن يصل إلى نتائج هامة في حياته ويتغلب على مشاكل كبيرة… وأهم من هذا أن يجد عبرة وموعظة في زهد هؤلاء العلماء الذين كانوا يقرؤون ويكتبون أكثر منا في ظروف شاقة وكانوا سعداء حقيقيين ومؤمنين بالله وبالعلم“.