ونحن على بعد أسابيع قليلة من بلوغ شهر رمضان المبارك، الذي تستريح فيه النفس البشرية من هموم الدنيا وأنماط الحياة المتسارعة. نطرح السؤال التالي: هل يؤثر شهر رمضان في جسم الإنسان؟ وحيث أن هناك علاقة وطيدة بين رمضان وجسم الإنسان، فقد وجب علينا الاعتراف أن هذا الشهر يُمثل هذا محطة تجديد ونقطة انطلاق للكثير من الناس،.

عند الحديث عن جسم الإنسان ورمضان والصوم، تتجلى أسمى غايات التوازن النفسي والجسدي في كبح جماح الشهوات والعادات السيئة. لذلك، من كان يبحث عن وقت مناسب للتغير وايجاد ذاته فليسأل الله أن يبلغه شهر رمضان. في هذه المقالة سأتكلم عن فوائد الصيام الصحية وعن العمليات الأيضية والسلوك الخلوي لجسم الانسان خلال فترة الصوم.

أثر الصوم على الدماغ

 لو تتبعنا العادات الغذائية اليومية لمجتمعاتنا نجدها تتكون في الأغلب من ثلاث وجبات رئيسة تتخللها وجبات خفيفة في منتصف اليوم. خلال فترة الصوم، يدرك الدماغ نقص الغذاء في الجسم ويعتبره تحديا، ويقوم الدماغ على اثره بالتكيف مع مسارات واشارات الاستجابة للضغط النفسي والتي تساعد الجسم على التعامل مع التوتر الأمر الذي يؤدي الى زيادة افراز وتحفيز مجموعة من (بروتينات العوامل العصبية) المسؤلة عن نمو وتطور وسلامة الخلايا العصبية.

هذا التحفيز يقوي من الذاكرة ويحارب مرض الزهايمر بسبب تفعيل عمليات اصلاح الحمض النووي في الخلايا العصبية التي قد تكون تضررت بسبب تكدس المواد السامة الناتجة من عمليات التمثيل الغذائي والأشعة فوق البنفسجية والتوتر المستمر والتي تؤثر سلباً على وظيفة الحمض النووي في عمليات النسخ.  ونتيجة لتحسن الحمض النووي ومع كثرة عدد الخلايا العصبية، تكون المسارات (أو نقاط الاشتباك العصبي) أكثر نشاطا، وبالتالي تؤدي إلى تحسين قدرة الذاكرة والتعلم بصورة اسرع.

أثر الصوم على الجهاز المناعي

تركز الابحاث العلمية الحديثة اليوم  على إيجاد طريقة تحفز من عمل الجهاز المناعي ليقوم بعمله المعتاد في الدفاع عن الجسم وكذلك في محاربة الامراض ذات الطابع المناعي. وفي هذا الصدد، أشار اخر البحوث المنشورة في مجلة (الخلية لعام 2017) ان الصيام  أو إتباع برنامج غذائي مشابه للصيام يعزز من زيادة نشاط التعبير الجيني ويجدد الخلايا البنكرياسية التالفة والتي بدورها تساعد على الافراز الطبيعي للانسولين وخلايا بيتا التي تحمي من الاصابة بمرض السكري.

كما أشار البحث  إن الصيام يقوي جهاز المناعة ويحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية، كما تزداد نسبة الخلايا المسؤولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، وترتفع نسبة بعض أنواع الأجسام المضادة. كما تبين أن الصيام لفترات طويلة يساعد في تحويل الخلايا الجذعية من حالة سبات إلى حالة التجديد الذاتي، كما يحمي من هدم نظام المناعة كأثر جانبي للعلاج الكيماوي ضد السرطان ويقلل من مستويات هرمون عامل النمو (اي جي اف-1) المرتبطة بتطور الاورام السرطانية. وقد ثبت ان الصيام يعزز من نشاط الخلايا المناعية التي ترفع من فعالية العلاج الكيمياوي باستهداف الخلايا السرطانية متجنبتاً الخلايا الطبيعية في نفس الوقت.

ومن تأثيرات الصيام الإيجابية والتي لها تأثير على الأمراض المناعية الأخرى غير مرض السكري هو تأثيره على الأمراض الروماتيزمية أو ما يسمى بالأمراض “الرثوية” وهي تتشارك مع مرض السكري في كونها أمراض مناعية أيضاً.

أثر الصوم في إزالة السموم

وفي خضم الحديث عن العلاقة الوطيدة بين رمضان وجسم الإنسان، يجب أن نقول أن المواد السامة تتراكم داخل أجسامنا طوال العام لاسباب عديدة منها: تبني نظام غذائي خاطيء، قلة النشاط الرياضي، الأثار الجانبية للأدوية، الهواء الملوث من عوادم السيارات وغازات المصانع وغيرها مما تؤدي الى تشوهات خلوية . يحتاج الجسم الى محطة تنظيف كامل واعادة توازن لكافة الاعضاء. تمتاز أجسامنا على تنظيف نفسها من الداخل من خلال عملية تسمى (الإلتهام الذاتي) حيث يتم التهام هذه المواد السامة والشوارد المتفرقه ويُعاد تدويرها واستخدامها في تصنيع خلايا جديدة.

بينت الدرسات ومراكز الأبحاث أن الصيام يعزز من آلية الإلتهام الذاتي وأن حالة الجوع التي يفرضها الصيام تجبر الجسم على استخدام مصادر بدلية للطاقة، يبدأ الجسم باستخدام أجسام الكيتون الناتجة من حرق الدهون المتراكمة والتي تقلل من الإلتهاب الخلوي وتراكم الجذور الحرة في الخلايا.

كذلك فإن عملية الإلتهام الذاتي تعمل على إصلاح الأجزاء المعطله في الخلية، ففي بعض الاحيان لا تحتاج الخلية الى عملية استبدال بل إلى عملية إصلاح وهنا يكمن الفرق بين هذه العملية وعملية (الموت الخلوي المبرمج) الذي تختار الخلية من خلاله مسار الموت.  و حظيت عملية الإلتهام الذاتي باهتمام كبير من قبل الباحثين، وقد حاز العالم الياباني (يوشينوري) على جائزة نوبل للطب والفسيولوجيا – علم دراسة الأعضاء – لسنة 2016 لمساهمته في اكتشاف أبعاد هذه الآلية وماتحمل من دلالات واعدة في محاربة كثير من الأمراض.

ومن هنا نجد أن الصوم يعزز ويحفز المسارات الايجابية في الجسم ويكبح ويقلل من التفاعلات الضارة لذلك يعد الصوم هو العامل المشترك بين جميع الأديان مع اختلاف الأسباب والأوقات.

يقول الدكتور ألكسي كاريل الحائز على جائزة نوبل سنة 1912 في كتابه (الانسان ذلك المجهول) : ” إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس البشرية وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام. كان الناس في الزمان الغابر يلتزمون بالصوم في بعض الأوقات وكانوا إذا لم ترغمهم المجاعة على ذلك يفرضونه على أنفسهم فرضا بإرادتهم. إن الأديان كافة لا تفتأ تدعو الناس إلى وجوب الصوم. يُحدث الحرمان من الطعام أول الأمر الشعور بالجوع، ويٌحدث أحيانا بعض التهيج العصبي ثم يعقب ذلك شعور بالضعف. بيد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم، سكر الكبد يتحرك ويتحرك معه الدهن المخزون وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد، وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للأبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب.. إن الصوم ينظف ويبدل أنسجتنا”.

رمضان دعوة للتجديد، تتجدد فيه الخلايا والنوايا والنفوس، لذلك قال الله تعالى: ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).