“روح الأنوار” هو كتاب لواحد من أهم قامات الفكر الأوروبي الحديث، ذلك هو تزفيتان تودوروف. هذا الكتاب المهم الذي عرّبه الأستاذ حافظ فويعه، وأصدرته رابطة الناشرين المستقلين التي تتشكل من دور نشر عربية محترمة من بينها ”توبقال” و ”الشروق” و ”الانتشار العربي”، ودور نشر أخرى.

يحاول تودوروف في كتبه رفع الالتباس الحاصل بين فكر التنوير والممارسات الاستعمارية، عادّا أن أفكار عصر التنوير أسهم في بلورتها، وصقلها، وتقديم خلاصاتها كل مفكري الحضارات السابقة.
إن مكونات فكر التنوير غارقة في القدم، وإن كانت عملية تركيبها جديدة، إنها خلاصة الماضي المتعدد والمتنوع في خياراته وتوجهاته التاريخية، وليست نتاج عصر التنوير، بل إنها خلاصة أفكار مدارس فكرية لا تزال تتصارع إلى اليوم.

انطلاقا وتأسيسا من هذه الخلاصات التي أتي بها تزفتيان تودوروف، نري أن الفكر التنويري كان، كما أشرنا، خلاصة أفكار جاء بها المئات من المفكرين، والشعراء، والفنانين والفلاسفة من مختلف الحضارات، تلك الأفكار التي أصبحت مشاعا تنهل منها البشرية ما تشاء. لكن قيمة كتاب تودوروف أنه يسائل الفكر الغربي عن المسار المختلف الذي أسسه لذاته، وفي علاقاته مع العالم غير الأوروبي، خاصة أن هناك اتهامات موجهة لهذا الفكر بأنه المولد للأنظمة الشمولية، وللأيديولوجيات الاستعمارية، وبالأحري للنظام الرأسمالي العالمي.

إن تودوروف يحاول استبعاد تلك التهم، متسائلا: هل حقا أن للتنوير علاقة بالممارسات والأيديولوجيات الاستعمارية، والفاشية، والعنصرية، وبالتالي الإمبريالية؟ إنها المشاكل المستجدة عالميا التي أسهمت في بروزها التيارات السياسية المعاصرة، التي تمزق العالم اليوم. إنها الصراعات التي تتجسد في الواقع الحضاري العالمي المعاصر.

إن الذين يقولون بنهاية عصر التنوير، والتشكيك بالمفاهيم التي أتي بها مفكرو ذلك العصر، يخلطون بين ما دعا إليه مفكرو ذلك العصر، وما يدعو إليه مفكرو أوروبا والولايات المتحدة اليوم.
لقد تباينت المواقف السياسية والاجتماعية بين مصالح الشرق ومصالح الغرب، لكن أيضا بين مصالح الدول الغربية ذاتها.

الكتاب يمثل ”روح الأنوار” تواصلا مع نهجه الفكري في صياغة تصورات جديدة ومختلفة بشأن رؤية الفكر الغربي عامة لقضايا الإنسان المعاصر. وتكمن أهمية الكتاب في مراجعة التقبل الغربي لعصر الأنوار في ضوء الراهن الحضاري، حيث لا ينخرط الكتاب في رؤية تأريخية لفكر الأنوار، تعتقله في زمنيته التاريخية بل ينظر تودوروف في الأنوار من زاوية قدرتها الفاعلة في التأثير على حياة المجتمعات، أي أنه يشرّح الأنوار سندان الواقع الغربي الراهن. وهو بذلك يقيّم الاتّهام الذي جعل من الأنوار مولّدة للأنظمة الشمولية وللإيديولوجيا الاستعمارية. فلقد أعلى عصر الأنوار من شأن الإنسان والحرية والمساواة ولا يعقل أن تكون هذه الدعامات مصدرا لسحق الإنسان.

يضيف مدخل الكتاب أن تودوروف ينتقد التوظيف الغربي السّيئ للأساس العقلاني والاختلافي الذي قام عليه التنوير، مشخصا الممارسات السياسية الغربية وناعتا إياها بالإساءة إلى فكر الأنوار، وفي ذلك إحراج للسلطة السياسية الغربية، وتضمين لخيانة الممارسة لفكر الأنوار.

عالمية التنوير: يشدد تودوروف على ضرورة التفكير من جديد في ”روح التنوير”
الذي هو ليس حكراً على الغرب بل هو مشاع إنساني.

إن ”روح الأنوار” مساهمة فكرية شبيهة بالبيان النقدي الذي رفعه تودوروف في وجه واقع حضاري تباينت فيه المواقف السياسية مع المراجع الفكرية، وبدا فيه الموقع الحضاري للغرب مهزوزا أمام محك شعارات التنوير، مشددا على أهمية الكتاب أيضا في تلويحه بضرورة التفكير من جديد في ”روح التنوير” الذي ليس حكرا على الغرب، بل هو مشاع إنساني، إذ نادى تودوروف باستعادة الإنسية، وهو ما يجعل من الكتاب حافزا لطرح سؤال التنوير العربي من جديد.
في البدء يعترف تودوروف بأنه ليس هناك من بيان ما يشتمل عليه بالضبط مشروع الأنوار، ومرد ذلك إلى سببين؛ أولا لأن الأنوار عصر نهاية المطاف، عصر حوصلة وتأليف لا عصر تجديد جذري، فالأفكار الكبرى للأنوار لا تعود إلى القرن السابع عشر، وهي إن لم تنحدر من العصر القديم تحمل على الأقل آثار أواخر العصر الوسيط الأول وعصر النهضة والعصر الكلاسيكي.

والأنوار حركة امتصاص ومفْصلة لآراء كانت فيما مضى متناحرة. لذلك يجب تبديد بعض الصور التي ترسخت في الأذهان بنوع من الإجماع. فالأنوار تتسم بالعقلانية والتجريبية في الوقت نفسه، وهي وريثة رينيه ديكارت مثلما هي وريثة الفيلسوف جون لوك، وقد احتضنت القدامى والمحدثين، أصحاب التوجهات الكونية وذوي التوجهات المحلية، وهي شغوفة بالتاريخ شغفها بالخلود وبالتفاصيل شغفها بالتجريد، وبالطبيعة شغفها بالفن، وبالحرية شغفها بالمساواة.

وفي الكتب نقطة هامة جدا ،فقد حذر تودوروف من الإيمان بفكرة التقدم الآلي، ورأي أن كل أمل في التقدم الخطي وهم لا طائل من ورائه. وعلى الرغم من المحاذير التي أشار إليها المؤلف، فإنه آمن بأن البشرية بمستطاعها بلوغ مرحلة الرشد بفضل انتشار المعرفة، والثقافة، وسيادة العقل، رافضا تحكم سلطة الماضي في توجيه حياة الناس، ودعا إلى تقييم الشعوب بمقاييس الثقافة التي ينتمون إليها.

وتجدر الملاحظة أن مكونات فكر الأنوار غارقة في القدم لكن عملية تركيبها جديدة، إذ لم يقتصر الأمر على التنسيق فيما بينها بل تجاوزه بخروج الأفكار من مظان الكتب إلى عالم الواقع خلال فترة الأنوار بالذات. معتبرا أن السبب الثاني الذي يعتبر عائقا أمام التحديد الدقيق لمشروع الأنوار فيتمثل في أن فكر الأنوار حمل عبئه عدد كبير جدا من المفكرين، الذين بحكم ما كانوا يدركونه من خلاف فيما بينهم بقوا منخرطين باستمرار في نقاشات مضنية سواء كان ذلك داخل البلد الواحد أو بين بلد وآخر.

التنوير العربي: طالب تودوروف باستعادة النزعة الإنسانية وهو ما يجعل من كتابه
هذا حافزاً لطرح سؤال التنوير العربي من جديد.

والحق أن الفترة التي تفصلنا عن الأنوار تساعدنا على الفرز، لكن إلى حد معين فقط؛ لأن خلافات الماضي أنتجت مدارس فكرية لا تزال تتصارع إلى اليوم. ثم إن عصر الأنوار كان عصر مناظرة أكثر مما كان عصر إجماع. هي إذن تعددية رهيبة من الأفكار، ورغم ذلك نحن نعترف دون حرج بوجود شيء يمكن أن نسميه مشروعا للأنوار.
لقد قام هذا المشروع في الأصل على ثلاثة أفكار ما انفكت تنمو وتتطور أيضا بحكم نتائجها التي لا تحصى وهي الاستقلالية والغائية والإنسانية لأفعالنا والكونية. فماذا ينبغي أن يفهم من قولنا هذا؟.

إن أول سمة تكوينية لفكر الأنوار تتمثل في جعلنا نفضل ما نختاره ونقرره بأنفسنا على ما تفرضه علينا سلطة خارجة عن إرادتنا. هو إذن اختيار ذو وجهين: وجه نقدي وآخر تكويني، فمن ناحية يجب عدم الخضوع لكل وصاية مفروضة على البشر من خارج إراداتهم، ومن ناحية أخرى ينبغي الانقياد طوعا للقوانين والقيم والقواعد المرغوب فيها.
وعموما يمكن الحديث عن مصطلحين هامين: التحرر والاستقلالية، وهما كلمتان تشيران إلى لحظتين ضروريتين بالتساوي لسيرورة واحدة لا يتسنى الانخراط فيها إلا بتوفر الحرية الكاملة في النظر والمساءلة والنقد والتشكيك، بحيث لن يكون هناك تقديس لأية عقيدة أو أية مؤسسة. وقد أدى هذا الاختيار إلى نتيجة غير مباشرة لكنها حاسمة تمثلت في نوع من القيد المفروض على السلطة، حيث صار لزاما عليها أن تكون متناغمة مع البشر.

ويأخذنا تودوروف في الفصل الثاني من هذا الكتاب وهو الفصل المعنون بـ ”رفض وتحريف” ليعرفنا على الانتقادات التي توجه إلى فكر الأنوار كونها ”وفرت المستندات الإيديولوجية للاستعمار الأوروبي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ويقوم هذا الانتقاد على المنطق التالي: بما أن الأنوار تقر بوحدة الجنس البشري فهي تقر إذن بكونية القيم. ولما كانت الدول الأوروبية مقتنعة بأنها تحمل قيما أرقى من القيم السائدة عند غيرها من الأمم، اعتقدت أن من حقها حمل حضارتها إلى الذين هم أقل حظا منها.

وكي تضمن نجاحها في أداء هذه المهمة كانت مجبرة على احتلال المناطق التي يقطنها سكان تلك الأمم”. معتبرا الفيلسوف الفرنسي كوندورسيه كان يحلم بقيام دولة عالمية متجانسة ويعتقد بأن تدخل الأوروبيين يساعد على الوصول إلى ذلك، والحقيقة أن المنظرين لإيديولوجيا الاستعمار الفرنسي سيلجؤون في غضون مئة سنة بعد ذلك إلى هذا النوع من الحجج لتبرير الاستعمار. فهم يزعمون أن من واجب الأوروبيين مساعدة الشعوب قليلة التحضر مثلما هو من واجبهم تماما تربية أطفالهم.