خلال القرون الثمانية التي تصدر فيها المسلمون مسيرة الحضارة، كانت أوروبا تعيش ما عُرف بقرونها الوسطى المظلمة. وقد شهد كثير من المستشرقين على الفجوة الحضارية العميقة التي كانت تفصل بين المسلمين وأوروبا في هذه الفترة؛ فبينما كانت الأخيرة تتخبط في الوحل نهارًا والظلام ليلاً، كانت شوراع وأسواق العرب في الأندلس مرصوفة وتضاء ليلاً([1]).
وكان كثير من الأوروبيين يوفدون أبناءهم ليتعلموا في المعاهد العربية وخاصة معاهد الأندلس؛ وكان ذلك حتى في عصر متقدم على العصر الذي بدأ فيه العلم العربي يغزو أوروبا ليبدد جهالات القرون السود. ففي القرن العاشر كان من بين الذين وفدوا من أوروبا لتلقي العلم في المعاهد العربية بالأندلس راهب يدعى جربير؛ فأجاد العربية، وحصل على المعارف العربية ثم أصبح فيما بعد بابا روما (من 999 إلى 1003م.) تحت اسم “سلفستر الثاني”. ولقد عُرف في التاريخ العصرُ الذي بدأت فيه ترجمة العلوم من العربية إلى اللاتينية- وهو القرنان الثاني عشر والثالث عشر- بعصر الحركة العربية الهامة في أوروبا([2]).
ويكاد يتفق المؤرخون أن انتقال العلوم والثقافة الإسلامية إلى أوروبا- وهو الانتقال الذي مهد لما عُرف بـ”عصر النهضة”- كان من خلال ثلاثة معابر أساسية:
أولاً: صقلية وجنوبي إيطاليا
أخذ العرب في غزو جزيرة صقلية منذ عام 827م. واستولوا على الجزيرة كلها عام 878م. وأخذوا ينشرون حضارتهم في ربوعها حتى انحسر عنها سلطانهم سنة 1092م. على يد ملوك النورمانديين، الذين لم يكونوا أقل من حكام العرب تسامحًا في الدين، وكفالة للعلم، ورعاية لأهله. وفي مقدمة هؤلاء “روجار الثاني” الذي حكم بين سنتي 1130 و1154م. واقترن اسمه بأكبر جغرافي عربي هو “الشريف الإدريسي”؛ ثم حفيده “فردريك الثاني” الذي استبد به الإعجاب بحضارة العرب فتشبه بهم في عاداته وأساليب حياته، وكان يقرأ كتبهم في أصولها؛ لأنه كان ملمًا بالعربية إلى جانب الألمانية والفرنسية والإيطالية واللاتينية واليونانية. وقد أنشأ عام 1224م. جامعة “نابلي” لنقل العلم العربي إلى العالم الغربي؛ وسرعان ما أضحت مركز الاهتمام بالثقافة العربية، وفيها وضعت ترجمات مختلفة من العربية إلى اللاتينية والعبرية، وبتشجيعه زار “ميخائيل سكوت” طليطلة عام 1217م. ونقل الكثير من الكتب العربية([3]).
ثانيًا: الأندلس
عبر المسلمون إلى أسبانيا عام 709م. ولم ينحسر سلطانهم عنها إلا بسقوط آخر مملكة عربية في غرناطة سنة 1492م- أي بعد خروج المسلمين من صقلية بأربعمائة سنة تمامًا- وخلال هذه القرون الثمانية انتشرت الحضارة الإسلامية المزدهرة في ربوع البلاد، وتركت بصماتها على كل نواحي الحياة، معنويًّا وماديًّا([4]).
ويقدم “غوستاف لوبون” شهادة مفصلة عن التأثير العميق الذي خلَّفه المسلمون في الأندلس، كمثال؛ سواء في الناحية الثقافية بإشاعة التسامح، ورعاية المخالفين في الفكر والعقيدة، وإقامة المكتبات والمدارس؛ أو الناحية المادية بتشييد الأبنية والمساجد (مسجد قرطبة) والقصور (قصر الحمراء) والحدائق، التي مازالت شاهد صدق حتى الآن على عظمة هذه الحضارة وروعتها.
يقول “لوبون”: “استطاع العرب أن يحولوا أسبانيا ماديًّا وثقافيًّا في بضعة قرورن، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوروبية؛ ولم يقتصر تحويل العرب لأسبانيا على هذين الأمرين، بل أثروا في أخلاق الناس أيضًا، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح، الذي هو أثمن صفات الإنسان. وبلغ حِلمُ عرب أسبانيا نحو الأهلين المغلوبين مبلغًا كانوا يسمحون به لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر أشبيلية النصراني الذي عقد في سنة 782م. ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد في سنة 852م. وتعد كنائس النصارى التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم”([5]).
وفي كلمات عميقة الدلالة، يشهد “لوبون” أن “همجية أوروبا البالغة”- حسب تعبيره- قد دامت “زمنًا طويلاً من غير أن تشعر بها؛ ولم يَبْدُ في أوروبا بعضُ الميل إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر وفي القرن الثاني عشر من الميلاد؛ وذلك حين ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم، فولّوا وجوههم شطر العرب، الذين كانوا أئمة وحدهم”([6]).
كما يكرر “لوبون” تلك الشهادة في موضع آخر، وكأنه يريد أن يسكت من يلوكون الاتهامات الباطلة ضد الحضارة الإسلامية، ويرمونها بما هي منه بَرَاء، فيقول: “إن العرب هم الذين فتحوا لأوروبا ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي؛ فكانوا مُمدِّنين لنا، وأئمةً لنا ستة قرون”([7]).
ثالثًا: الحروب الصليبية
لقد سمحت الحروب الصليبية طوال القرنين اللذين تواصلت فيهما (1097- 1291م)، بأن يطلع الأوروبيون على الحضارة الإسلامية في نواحي الفنون العسكرية، والعمارة، والزراعة، والصناعة، والحياة الاجتماعية؛ حتى كانت بعض طبقات الصليبيين تفرض على نسائها وأبنائها إذا بلغن الحُلم أن يضربن الخمار على وجوههن، ويأبون عليهن أن يخرجن إلى الأسواق سافرت، بل إنهم ما كانوا يسمحون لهن بالخروج إلا للضرورة القصوى، كالذهاب إلى الكنائس والحمامات؛ كما أطلق بعض الرجال الصليبيين اللحى، تشبهًا بالمسلمين([8]).
ولذلك يؤكد لوبون أن “اتصال الغرب بالشرق مدة قرنين [خلال الحروب الصليبية] من أقوى العوامل على نُموِّ الحضارة في أوروبا”([9]).
ولكنه يعود فيفرِّق في الأثر الذي تركته تلك الحروب على أوروبا، فيرى أن “تأثير الشرق في تمدين الغرب كان عظيمًا جدًّا بفعل الحروب الصليبية، وأن ذلك التأثير كان في الفنون والصناعات والتجارة أشدَّ منه في العلوم والآداب. وإذا ما نظرنا إلى تقدم العلاقات التجارية باطِّراد بين الغرب والشرق، وإلى ما نشأ من تحاكِّ الصليبيين والشرقيين من النمو في الفنون والصناعة؛ تجلَّى لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا الغرب من التوحش، وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علوم العرب وآدابهم التي أخذت جامعات أوروبا تعول عليها؛ فانبثق عصرُ النهضة منها ذات يوم”([10]).
إذن، استطاعت الحضارة الإسلامية أن تؤثر فيمن جاورها من الأمم وتأخذ بأيديهم على مدارج السلم الحضاري، وأن ترسل أشعة نورها وعمرانها إلى أوروبا عبر ثلاثة معابر؛ بما مهَّد للقفزة الهائلة في العلوم التجريبية، وتأسيس نهضة الغرب في العصر الحديث؛ مما يؤكد أن الحضارة في جانبها المادي والعمراني سلسلةٌ متصلة الحلقات، ينبني اللاحقُ منها على السابق، وتسهم فيها كلُّ أمة وحضارة بنصيبها.
وعلى الرغم من أن معظم الكتابات الأوروبية أسقطت من تاريخها دورَ الحضارة الإسلامية؛ الذي كان أكبر من كونه مجرد “همزة وصل” بين الحضارة اليونانية والنهضة الغربية الحديثة؛ حيث استوعب المسلمون علوم من سبقوهم، ونقَّحوها، وأضافوا إليها الشيء الكثير.. أقول: رغم هذا الإجحاف والإنكار، فإن ثمة مستشرقين منصفين- أشرنا إلى بعضهم- شهدوا بعظيم الدور الذي قامت به الحضاراة الإسلامية، وأكدوا أنه “لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ، لتأخرت نهضة أوروبا الحديثة عدة قرون”([11]).
([1]) يمكن مراجعة الكثير من هذه الشهادات المنصفة في: “حضارة العرب” جوستاف لوبون؛ “شمس العرب تسطع على الغرب” زيجريد هونكه؛ “الفكر العربي ومكانته في التاريخ” دي سي أولييري.
([2]) “مآثر العرب على الحضارة الأوروبية”، جلال مظهر، ص: 9، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1960م.
([3]) “لقطات علمية من تاريخ الطب العربي”، د. توفيق الطويل، بحث في مجلة “عالم الفكر”، ص: 283، عدد خاص عن “فلسفة التاريخ”، المجلد الخامس 1974م، وزارة الإعلام الكويتية.
([4]) المصدر نفسه، ص: 284.
([5]) “حضارة العرب”، لوبون، ص: 276، 277، ترجمة عادل زعيتر، طبعة مكتبة الأسرة، 2000م.
([6]) المصدر نفسه، ص: 567.
([7]) المصدر نفسه، ص: 579.
([8]) من مقدمة د. عدنان زرزور لكتاب “من روائع حضارتنا” د. مصطفى السباعي، ص: 33، 34، المكتب الإسلامي، ط3، 1982م، بيروت. بتصرف.
([9]) “حضارة العرب”، لوبون، ص: 334.
([10]) المصدر نفسه، ص: 339. وراجع المزيد في: “الحضارة الإسلامية” د. عبد الحليم عويس، ص: 279.
([11]) هذا قول المستشرق “ليبري”، نقلاً عن “معالم الحضارة في الإسلام” د. عبد الله ناصح علوان، ص: 107، دار السلام، ط4، 2005م.