أخبر القرآن الكريم عن توجيه الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام لينادي البشرية جمعاء يقصدون بيت الله للعبادة , وأداء شعيرة الحج، فقال خير قائل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، وحكمة هذا النداء توحيد وجهة الناس لرب العالمين، عن طريق المشاهدة والحس، لأنهما أبلغ في التعقل والنفع والتأثير، يقول ابن عاشور: إن من حكمة مشروعية تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلا إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنة المؤثرات لأهل المقصد النافع.

وكانت الكعبة المشرفة من يومها الأول تمثل صرحا حضاريا شامخا لجميع البشر، وهي حرم الله تشريفا لمكانتها عند الله، يقول الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)، وكانت حرمته قديمة وباقية عبر العصور، فإن العرب في الجاهلية تعرف هذه الحرمة وعظمتها.

ثم جاء الإسلام يبين أنواع المناسك التي يجب التقرب بها إلى الله تعالى في حرمه لينهل البشر من عطاءات ربانية، ونفحات روحية، ويتحقق من ذلك معنى الهداية والبركة والتوحيد الصحيح، وهي ميزات خالصة لهذا البيت عند الله، وكانت البيوت تبنى قبل  بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة، لكنها لم تبوء هذه المكانة في تاريخ البشرية، بل لم تقاربها.

حكمة مشروعية تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلا إلى المحسوسات

يلوح هذا المعنى بجلاء أكثر لو تأملنا قوله تعالى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا..) فيه تنويه لبعض معالم حضارية خالدة في هذا البيت المبارك، سماها آيات بينات، إشارة إلى آثار محسوسة خلدها التاريخ، منها مقام إبراهيم عليه  السلام وهو الموضع الذي كان يقف فيه تجاه الكعبة للعبادة، ولإتمام بناء الكعبة، ومنها حجر إسماعيل عليه السلام (الحطيم)، والحجر الأسود، ومنبع زمزم.

ولو وسعنا هذه الدائرة قليلا نجد مواقف الناس بعرفات والجمرات ويوم النحر حين يزخر بيت الحرام بالطائفين والعاكفين .. مفاخر كبرى لوحدة المسلمين في القبلة، وفي لون اللباس ونوعه، وفي الدعوة والتلبية، ومشاهد رفيعة للتسوية بين الناس، لا فخر لأحد على أحد فيها ولا فرق، وهي بالأولى تمثل حضارة دينية، ومفخرة إنسانية لهذه الأمة على سائر الأمم.

وخلال العقود الثلاثة الماضية إلى الوقت الراهن يشهد هذا الحرم المبارك توسعات كبيرة تشمل المشاعر كلها، تبرز جهود المملكة العربية السعودية في تفاعلها المتزامن مع معطيات العصر الحضارية، وتستغل تقنيات مدنية جديدة، ووسائل تنقلات حديثة، لتسهيل أداء المناسك على الحجاج.

أبرز هذه المظاهر الحضارية الحديثة روح التعاون والاستجابة لمتطلبات ظروف الحج لدي المسلمين، ومساعدة الأجهزة الأمنية على تقليل الأخطاء. فالالتزام بالأنظمة والاستجابة للقوانين واستخدام وسائل النقل من قطارات وسيارات بالطرق السليمة، والترفق في الزحام، والحرص على النظافة، وإعطاء الطرق حقها، كلها مظاهر حضارية تليق بالمسلم الذي يستمد منهج حياته من دينه ما يصدر عنه من أخلاق تنشر السكينة والاطمئنان.

ومن ذلك اعتماد وسائل الإعلام المختلفة للتوعية بمشاعر الحج وضبط النظام والسلوك الفردي والجماعي، وقد ركزت الحملة على مخاطبة الجمهور المستهدف بلغات عدة عبر وسائل الإعلام المختلفة، وكما يقول الدكتور هشام فالح – أحد المشرفين على الحملة – : عمدنا من خلال الحملة إلى مخاطبة الجوانب الروحانية والسلوكية وأخيراً النظامية، آخذة في الاعتبار الشرائح المستهدفة، ومن بينها ضيوف الرحمن من الداخل والخارج والقطاعان الحكومي والأهلي اللذان يمثلان مقدمي الخدمة للحجيج.

كما أن الحملة اهتمت بتطوير المشاعر المقدسة، من خلال إدارة الحشود وتنظيم التدفق من المشاعر المقدسة وإلى المسجد الحرام والعكس، وتحسين البيئة الصحية، والنظافة العامة، ومكافحة الظواهر السلبية مثل الحد من أعداد المتسللين إلى الحرم بدون تصريح، وتقليل ظاهرة الافتراش في الشوارع والطرقات، ومحاربة حملات الحج الوهمية.

وهذه الأمور الإجرائية التنظيمية تهدف إلى تحسين وضع الحجاج بما يتوافق مع الحضارات الإنسانية الحديثة، وهي ضمن المصالح العامة التي تأخذ حكم الغايات، يتم الحج خلالها في حالة محفوفة بالهدوء والانضباط، بعيدة من الفوضى والهمجية، وبهذا تتفق للأمة في مناسك الحج حضارة مادية وروحية معا.