المقصود بالشهادة هوإخبار الشاهد عما شاهده “بلفظ الشهادة في مجلس القاضي بحق للغير على آخر[1]” من باب إقامة البينة، وهي مشروعة بنص الكتاب والسنة، كما في قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}[الطلاق: 2]. وكما في الصحيحين أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر فقال للمدعي: “شاهداك أو يمينه.[2] ومن هنا أجمع أهل العلم على الأخذ بالشهادة في إثبات الحقوق عند الإنكار، لأن من خلالها تصل الحقوق إلى أصحابها.

فالخطاب الشرعي موجه إلى الرجل والمرأة معا، وكل منهما مكلف بأداء الشهادة إذا تحقق معيارها بصرف النظر عن كون الشاهد ذكرا أو أنثى، لأن الشهادة هي التي تحصحص الحق الذي يعتمده القاضي في مقام القضاء، فقبول هذه الشهادة قد يكون من رجل وامرأة فأكثر، وقد يكون من امرأة واحدة أو النساء منفردات دون الرجال.

حالات تقبل فيها شهادة النساء وحدهن

قال الزهري:” مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن”[3] وهذا القول هو الضابط في هذا الباب.

وعن ابن عمر:” لا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه غيرهن من عورات النساء، وحملهن، وحيضهن.[4]

قال ابن القيم : قال شيخنا ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}[البقرة: 282]، فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ” وأما نقصان عقلهن: فشهادة امرأتين بشهادة رجل “، فبين أن شطر شهادتهن إنما هو لضعف العقل لا لضعف الدين، فعلم بذلك أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال، وإنما عقلها ينقص عنه، فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة، لم تكن فيه على نصف رجل، وما تقبل فيها شهادتهن منفردات، إنما هي أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال، والارتضاع، والحيض، والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى إعمال العقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره، فإن هذه معان معقولة، ويطول العهد بها في الجملة.[5]

وقال ابن قدامة: “لا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة.”[6] وإنما يرد الخلاف في نصاب الشهادة في بعض المواضع التى ينفردن فيها بالشهادة، ونقل ابن قدامة تنصيص بعض العلماء على أشهر الأشياء تقبل فيها شهادتهن منفردات، وأنها خمسة أشياء وهي:

أولا: شهادة المرأة في الولادة

تعتبر قضية الولادة من خصوصيات النساء التي لا دخل للرجال فيها في الغالب، وتبرز أهمية الشهادة في هذا المقام من حيث أنها سبيل لإثبات النسب أو إنكاره. “ولأن الضرورة تتحقق في هذا الموضع فإنه يتعلق به أحكام يحتاج إلى بيانه في مجلس القاضي ويتعذر إثباته بشهادة الرجال; لأنهم لا يطلعون عليه فلا بد من قبول شهادة النساء فيه; لأن الحجة لإثبات الحقوق مشروعة بحسب الإمكان”.[7]

وقال الحسن بن حي: “لا تجوز شهادة النساء مع رجل في الحدود، وتصدق المرأة وحدها في الولادة: أنها ولدت هذا الولد، ويلحق نسبه – وإن لم يشهد لها بذلك أحد سواها”[8]

ثانيا: شهادة المرأة في الاستهلال

أي استهلال الصبي، وهو “أن يرفع صوته بالبكاء عند ولادته.[9] ولذا يقال: استهل المولود، إذا رفع صوته بالبكاءوصاح عند الولادة، ومما يترتب على استهلال الصبي قضية التوارث، حيث لو استهل المولود ثم مات يفرض له نصيبه: يرث ويورث.

وسئل الحسن بن علي: متى يجب سهم المولود؟ قال: إذا استهل”.وصح عن إبراهيم النخعي: إذا استهل الصبي وجب عقله وميراثه.” [10]

وفي الموسوعة الفقهية أن:”الجنين إذا استهل بعد تَام انفصاله فإنه يرث ويورث بالإجماع”[11] وعليه يجب اعتبار شهادة المرأة هنا لأن المجال لها في الغالب. “والنساء جنس فيدخل فيه أدنى ما يتناوله الاسم”[12]

قال السرخسي نقلا عن صاحبا أبى حنيفة” تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة عدل لحديث علي – رضي الله عنه – أنه أجاز شهادة القابلة في الاستهلال.[13]  ثم قال مشيرا إلى العلة:” والمعنى فيه أن استهلال الصبي يكون عند الولادة، وتلك حالة لا يطلع عليها الرجال، وفي صوته عند ذلك من الضعف ما لا يسمعه إلا من شهد تلك الحالة، وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل كشهادة الرجال فيما يطلعن عليه; ولهذا يصلى عليه بشهادة النساء. “.[14]

ثالثا: شهادة المرأة القابلة

القابلة: هي المرأة التي تساعد الوالدة تتلقى الولد عند الولادة.[15]

“اتفق الفقهاء على أنه تقبل شهادة القوابل فيما لا يطلع عليه إلا النساء لقول الزهري رضي الله تعالى عنه: مضت السنة في أن تجوز شهادة النساء ليس معهن رجل، فيما يلين من ولادة المرأة، واستهلال الجنين، وفي غير ذلك من أمر النساء الذي لا يطلع عليه ولا يليه إلا هن، فإذا شهدت المرأة المسلمة التي تقبل النساء فما فوق المرأة الواحدة في استهلال الجنين جازت”.[16] وقبول شهادتها تثبت النسب والميراث وحقوق زوجية أخرى عند الحاجة.

رابعا: شهادة المرأة في الرضاعة

الحاصل في الرضاعة أنه يحرم بها بما يحرم من النسب كما ورد في الحديث الصحيح، ومن ثم لا يحل النكاح بكل من له الصلة بالرضاعة نحو ما في القرابة بالنسب إذا ثبت الإرضاع خمس مرات، وهذا ينبه على عظم أمر الرضاعة في دنيا الناس. 

ولذا،”يثبت الرضاع بشهادة امرأة واحدة مرضية معروفة بالصدق، شهدت بذلك على نفسها أو على غيرها، أنها أرضعت طفلاً في الحولين خمس رضعات; وذلك لحديث عقبة بن الحارث قال: تزوجت امرأة، فجاءت امرأة فقالت: إني قد أرضعتكما، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:” وكيف وقد قيل؟ دعها عنك” أو نحوه، ولأن هذه شهادة على عورة، فتقبل فيها شهادة النساء منفردات عن الرجال، كالولادة.[17]

قال الشوكاني رحمه الله:”فالحق وجوب العمل بقول المرأة المرضعة حرة كانت أو أمة حصل الظن بقولها أو لم يحصل “.36

فحديث عقبة بن الحارث نص صريح في المصير إلى قول المرضعة الواحدة، ولما سئل الإمام أحمد عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث.

خامسا: شهادة المرأة في عيوب النساء الباطنة.

 ثمة حالات ذات الصلة بأمور النساء حرمت على الرجال قربانها، مع الحاجة الماسة إلى بعض الأحكام المتوقفة على الشهادة فيها مما لا بد منها، حفاظا على الأنساب والحقوق، مما يوجب الاهتمام بشهادة النساء وقبولها في هذه الأحوال، كالحيض، والبكارة، والثيوبة، والرتق، وانقضاء العدة، ونحوها مما تقع في الستر.

وجاء في الموسوعة الفقهية أن:”العيب الذي لا يطلع عليه إلا النساء: يرجع القاضي فيه إلى قول النساء بعد أن يرين العيب، ولا يشترط العدد فيهن، بل يكفي قول امرأة واحدة عدل، والثنتان أحوط، لأن قول المرأة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة في الشرع، كشهادة القابلة في النسب”.[18]

قال ابن عابدين: “اتفق… أصحاب المتون …من قبول شهادة الواحدة في البكارة والعيوب التي لا يطلع عليها إلا النساء.”[19]

والخلاصة:أن النساء شقائق الرجال أمام الخطاب الشرعي أصالة، إلا ما استنثى منه الشرع، فيجوز قبول شهادتهن منفردات في الأمور السابقة الذكر لاختصاصهن بها غالبا، في حين يندر وجود قبول شهادة رجل منفرد، وإنما خص ذلك بالمرأة تكليفا وتشريفا، وأما عدم قبول شهادة النساء عند أهل العلم في الحدود والقصاص، فإنه يرجع إلى بعدهن من تلك المواطن غالبا، ونظرا لطبيعتهن.


[1] التعريفات. ص: 100.

[2] رواه البخاري (2662) ومسلم (138).

[3] المحلى 8/478

[4] المصدر السابق

[5] الطرق الحكمية ص:128

[6] المغنى 10/137

[7] المبسوط 16/143.

[8] المحلى 8/481

[9] الموسوعة الفقهية الكويتية. 4/122.

[10] المحلى. 8/343. – 344

[11] الموسوعة الفقهية الكويتية. 4/134

[12] المصدر السابق 4/132

[13] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. قال الزيلعي: هذا سند ضعيف. ينظر نصب الراية 4 / 80.

[14] المبسوط 16/143.

[15] القاموس الفقهي لغة واصطلاحا. ص:224

[16] الموسوعة الفقهية الكويتية. 32/241.

[17] الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة. ص:333

[18] الموسوعة الفقهية الكويتية. 20/122

[19] رد المحتار على الدر المختار. 5/32