إِنَّ مفتاح شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِيمانه بالله تعالى، والاستعداد لليوم الآخر، وكان هذا الإِيمان سبباً في التوازن المدهش، والخلاب في شخصية عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ ولذلك لم تطغ قوَّته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقّاً لتأييد الله، وعونه، فقد حقَّق شروط كلمة التَّوحيد، من العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والإِخلاص، والمحبَّة، وكان على فهمٍ صحيحٍ لحقيقة الإِيمان، وكلمة التَّوحيد، فظهرت آثار إِيمانه العميق في حياته، والَّتي من أهمها:

1ـ شدَّة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه

كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النَّار، فإِن حرَّها شديدٌ، وقعرها بعيدٌ، ومقامعها حديدٌ،

وكان رضي الله عنه من شدَّة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإِذا خُيِّل إِليه أنَّه أخطأ في حقِّ أحدٍ؛ طلبه، وأمره بأن يقتصَّ منه، فكان يقبل على النَّاس يسألهم عن حاجتهم، فِإذا أفضوا إِليه بها؛ قضاها، ولكنَّه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشَّكاوى الخاصَّة: إِذا تفرغ لأمرٍ عامٍّ، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامَّة، فجاءه رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين ! انطلق معي فأعنِّي على فلانٍ، فإِنَّه ظلمني، فرفع عمر الدِّرَّة، فخفق بها رأس الرَّجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتَّى إِذا اشتغل بأمور المسلمين؛ أتيتموه ! فانصرف الرَّجل متذمِّراً، فقال عمر: عليَّ بالرَّجل. فلمَّا أعادوه؛ ألقى عمر بالدِّرَّة إِليه، وقال: أمسك الدِّرَّة، واخفقني، كما خفقتك، قال الرَّجل: لا يا أمير المؤمنين ! أدعها لله ولك، قال عمر: ليس كذلك؛ إِما أن تدعها لله وإِرادة ما عنده من الثَّواب، أو تردَّها عليَّ، فأعلم ذلك. فقال الرَّجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين ! وانصرف الرَّجل، أمَّا عمر فقد مشى حتَّى دخل بيته، ومعه بعض النَّاس منهم الأحنف بن قيس؛ الذي حدَّثنا عما رأى:… فافتتح الصَّلاة، فصلَّى ركعتين ثمَّ جلس، فقال: يا بن الخطاب ! كنت وضيعاً، فرفعك الله، وكنت ضالاًّ فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزَّك الله، ثمَّ حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجلٌ يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إِذا أتيته ؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبةً ظننت: أنَّه خير أهل الأرض.

وعن إِياس بن سلمة، عن أبيه، قال: مرَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ وأنا في السُّوق، وهو مارٌّ في حاجةٍ، ومعه الدِّرَّة، فقال: هكذا أمط عن الطريق يا سلمة ! قال: ثمَّ خفقني بها خفقةً فما أصاب إِلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطَّريق، فسكت عنِّي حتَّى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة ! أردتَ الحجَّ العام ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين ! فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتَّى دخل بيته، فأخرج كيساً فيه ستمئة درهم، فقال: يا سلمة ! استعن بهذه، واعلم أنَّها من الخفقة الَّتي خفقتك عام أوَّل. قلت: والله يا أمير المؤمنين ! ما ذكرتُها حتَّى ذكَّرتنيها. قال: واللهِ ما نسيتها بعد!

وكان رضي الله عنه يقول في مجالسة النَّفس، ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ *} [الحاقة: 18] وكان من شدَّة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جَدْيٌ بطف الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر.

وعن عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على قَتَبٍ يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أين تذهب ؟ قال: بعيرٌ ندَّ من إِبل الصَّدقة أطلبه، فقلت: أَذْلَلْتَ الخلفاء بعدك ! فقال: يا أبا الحسن ! لا تلمني، فو الذي بعث محمَّداً بالنُّبوَّة لو أنَّ عناقاً أُخذت بشاطىء الفرات؛ لأُخذ بها عمر يوم القيامة.

وعن أبي سلامة قال: انتهيت إِلى عمر وهو يضرب رجالاً، ونساءً في الحرم على حوض يتوضَّؤون منه، حتَّى فرَّق بينهم، ثمَّ قال: يا فلان ! قلت: لبَّيك ! قال: لا لبيك، ولا سعديك، ألم أمرك أن تتَّخذ حياضاً للرِّجال، وحياضاً للنساء ؟! قال: ثمَّ اندفع فلقيه عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ فقال: أخاف أن أكونَ هلكتُ، قال: وما أهلكك ؟ قال: ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قال: يا أمير المؤمنين ! أنت راعٍ من الرُّعاة، فإِن كنت على نصحٍ وإِصلاحٍ؛ فلن يعاقبك الله، وإِن كنت ضربتهم على غشٍّ؛ فأنت الظَّالم.

وعن الحسن البصريِّ: أنَّه قال: بينما عمر ـ رضي الله عنه ـ يجول في سكك المدينة؛ إِذ عرضت هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 58] فانطلق إِلى أُبيِّ بن كعبٍ، فدخل عليه بيته؛ وهو جالسٌ على وسادةٍ، فانتزعها أُبيٌّ من تحته، وقال: دونكها يا أمير المؤمنين ! قال: فنبذها برجله، وجلس، فقرأ عليه هذه الآية، وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، وأوذي المؤمنين، قال: لا تستطيع إِلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر، وتنهى. فقال عمر: قد قلت والله أعلم.

وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ ربما توقد النَّار ثمَّ يدلي يده فيها، ثمَّ يقول: ابن الخطاب ! هل لك على هذا صَبْر؟!

2 ـ زهده

فهم عمر ـ رضي الله عنه ـ من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنَّبيِّ الأمين (ص)، وَمِنْ تفكُّره في هذه الحياة بأنَّ الدُّنيا دار اختبارٍ، وابتلاءٍ، وعليه فإِنَّها مزرعةٌ للأخرة، ولذلك تحرَّرَ من سيطرة الدُّنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع، وانقاد، وأسلم نفسه لربِّه ظاهراً، وباطناً، وكان وصل إِلى حقائق استقرَّت في قلبه ساعَدَتْهُ على الزُّهد في هذه الدُّنيا، فعن أبي الأشهب قال: مرَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ على مزبلةٍ، فاحتبس عندها، فكأنَّ أصحابه تأذَّوا بها، فقال: هذه دنياكم الَّتي تحرصون عليها، وتبكون عليها.

وعن سالم بن عبد الله: أنَّ عمر بن الخطَّاب كان يقول: والله ! ما نعبأ بلذَّات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تُسمَط لنا، ونأمر بلُباب الخبز، فيخبز لنا، ونأمر بالزَّبيب، فينبذ لنا في الأسعان حتَّى إِذا صار مثل عين اليعقوب، أكلنا هذا، وشربنا هذا، ولكنَّا نريد أن نستبقي طيباتنا؛ لأنَّا سمعنا الله يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].

وعن أبي عمران الجوني، قال: قال عمر بن الخطاب: لنحن أعلم بليِّن الطعام من كثير من اكليه، ولكنَّا ندعه ليوم {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2].

وقد قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: نظرت في هذا الأمر، فجعلت إِن أردت الدُّنيا أضرُّ بالآخرة، وإِن أردت الآخرة أضرُّ بالدُّنيا، فإِذا كان الأمر هكذا، فأضرُّ بالفانية. وقد خطب رضي الله عنه النَّاس؛ وهو خليفةٌ، وعليه إِزارٌ فيه اثنتا عشرة رقعةً. وطاف ببيت الله الحرام وعليه إِزارٌ فيه اثنتا عشرة رقعةً، إِحداهنَّ بأدم أحمر. وأبطأ على النَّاس يوم الجمعة، ثمَّ خرج فاعتذر إِليهم في احتباسه، وقال: إِنَّما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يُغسل، ولم يكن لي ثوبٌ غيره.

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حاجّاً من المدينة إِلى مكَّة إِلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطاً ولا خباءً، كان يلقي الكساء والنِّطع، على الشَّجرة، فيستظلُّ تحته.

ودخلت عليه مرَّةً حفصة أمُّ المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ وقد رأت ما هو فيه من شدَّة العيش والزُّهد الظَّاهر عليه، فقالت: إِنَّ الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرِّزق، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك، ولبست ثياباً ألين من ثوبك ؟ قال: سأخصمك إِلى نفسك، فذكر أمر رسول الله (ص) وما كان يلقى من شدَّة العيش، فلم يزل يذكِّرها ما كان فيه رسول الله (ص)، وكانت معه حتَّى أبكاها، ثمَّ قال: إِنَّه كان لي صاحبان سلكا طريقاً، فإِن سلكت الشَّديد؛ لعلِّي أن أدرك معهما عيشهما الرَّخِيَّ.

يقول سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ: والله ما كان عمر بن الخطاب بأقدمنا هجرةً، وقد عرفت بأيِّ شيءٍ فضلنا، كان أزهدَنا في الدُّنيا.

3 ـ ورعه

وممَّا يدلُّ على ورعه ـ رضي الله عنه ـ ما أخرجه أبو زيد عمر بن شبَّة من خبر معدان بن أبي طلحة اليعمري: أنَّه قدم على عمر ـ رضي الله عنه ـ بقطائف، وطعامٍ، فأمر به، فقسم، ثمَّ قال: اللَّهمَّ إِنَّك تعلم أنِّي لم أرزقهم، ولن أستأثر عليهم إِلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد خفت أن تجعله ناراً في بطن عمر. قال معدان: ثمَّ لم أبرح حتَّى رأيتُه اتَّخذ صفحةً من خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامَّة، فأمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ يرغب في أن يأكل مع عامَّة المسلمين؛ لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنهُ يتحرَّج من أن يأكل من طعام صنع من مال المسلمين العام، فيأمر بإِحضار طعامٍ خاصٍّ له من خالص ماله، وهذا مثالٌ رفيعٌ في العفَّة، والورع؛ إِذ أنَّ الأكل من مال المسلمين العامِّ معهم ليس فيه شبهة تحريم، لأنَّه منهم، ولكنَّه قد أعفَّ نفسه من ذلك ابتغاءً ممَّا عند الله تعالى، ولشدَّة خوفه من الله تعالى خشي أن يكون ذلك من الشُّبهات، فحمى نفسه منه.

وعن عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر ـ رضي الله عنه ـ فكانت له ناقةٌ يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم، فسقاه لبناً أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللَّبن لك ؟ قال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ النَّاقة انفلت عليها ولدها، فشربها، فحلبت لك ناقةً من مال الله. فقال: ويحك، تسقيني ناراً ؟! واستحلَّ ذلك اللَّبن من بعض النَّاس، فقيل: هو لك حلالٌ يا أمير المؤمنين ! ولحمها.

فهذا مثلٌ من ورع أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ حيث خشي من عذاب الله ـ جلَّ وعلا ـ لمَّا شرب ذلك اللبن مع أنَّه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئنَّ نفسه إِلا بعد أن استحلَّ ذلك من بعض كبار الصَّحابة رضي الله عنهم الَّذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر.

وهذا الخبر وأمثاله يدلُّ على أنَّ ذكر الاخرة بما فيها من حسابٍ، ونعيمٍ أو شقاءٍ، أخذ بمجامع عمر، وملأ عليه تفكيره، حتَّى أصبح ذلك موجِّهاً لسلوكه في هذه الحياة. لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ شديد الورع، وقد بلغ به الورع فيما يحقُّ له، ولا يحقُّ: أنَّه مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواءً، وكان في بيت المال عسلٌ جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداوَ عمرُ بالعسل، كما نصحه الأطبَّاء، حتَّى جمع الناس، وصعد المنبر، واستأذن الناس: إِن أذنتم لي، وإِلا فهو عليَّ حرامٌ، فبكى النَّاس إِشفاقاً عليه، وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درُّك يا عمر ! لقد أتعبت الخلفاء بعدك.

هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعيَّةً من المشرق والمغرب يجلس على التُّراب، وتحته رداءٌ كأنَّه أدنى الرَّعيَّة، أو من عامَّة الناس، ولقد بُسِطت الدُّنيا بين يدي عمر ـ رضي الله عنه ـ وتحت قدميه، وفُتحت بلاد الدُّنيا في عهده، وأقبلت إِليه الدُّنيا راغمةً، فما طرف لها بعينٍ، ولا اهتزَّ لها قلبُه، بل كان كلُّ سعادته في إِعزاز دين الله، وكسر شوكة المشركين. فالتقوى منهج الفاروق والزُّهد سلوكه والورع صفته.

 


المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب، مكتبة التابعين، القاهرة، ط1، (2002)، صفحة 145:138.

* عبدالرحمن الشرقاوي، الفاروق عمر، دار الكتاب العربي، ط1، (1988)، صفحة 222.

* أبو الفرج عبدالرحمن الجوزي، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، (2001)، صفحة 160 ، 161.

* السيد محمد نوح، من أخلاق النصر في جيل الصحابة، دار ابن حزم، ط1، (1994)، صفحة 48 ، 49.