- الكتاب تحدَّث عن صلاح الدين الأيوبي حديث محب مقدِّر
- قرر أن صلاح الدين أعظم الفاتحين شهامة وشجاعة في عصره
- رصد الفارق بين رحمة المسلمين و”الغزو الوحشي للصليبيين”
- جمع بين السرد التاريخي بأسلوب أدبي رائق، والتناول التحليلي
صلاح الدين الأيوبي من أهم شخصيات تاريخنا، وارتبط اسمه ببيت المقدس؛ ليس فاتحًا مظفرًا فحسب، وإنما أيضًا باعتباره نموذجًا لرحمة الإسلام وسماحته حينما تكون له الغلبة. وهذا ما رصده المستشرق “ستانلي لين ﭘـول” في كتابه المهم “صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس”، الذي ترجمه مؤخرًا الدكتور علاء مصري النهر، الباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية.
في حوارنا مع د. علاء النهر نتعرف على ظروف ترجمة كتاب صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس ، وما يضيفه للمكتبة التاريخية، وكيفية تعامله مع شخصية صلاح الدين، لاسيما أن محرر القدس أحاطت به أقاويل غربية كثيرة، ورؤى استشراقية مبالِغة أو مُجحِفة.. كما نتساءل: ما الذي تبقى من شخصية صلاح الدين، بالنسبة لنا نحن المسلمين، وللغربيين أيضًا؟.. فإلى الحوار:
نود أن نعرف القراء بمسيرتك العلمية؟
بادئ ذي بدء أتقدَّم إليكم بالشكر الجزيل وبالعرفان الجليل على إتاحة هذه الفرصة الثمينة. إنَّ الحديث عن النفس “حديثٌ مملولٌ” كما يقول الأديب الكبير عليّ الطنطاوي، بَيْدَ أنّ الحديث عن العلم حديث ذو شجون، فلا فكاك ولا مناص.
حصلتُ على درجة الماجستير من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة الإسكندرية في عام 2016م، وموضوع رسالتي “عِزّ الدِّين ابن الأثير مُؤرِّخًا للدولة الزَّنْكية”، وهي منشورة، وبصدد نشْرها مرَّةً ثانية في حُلَّة قشيبة منقَّحة. وقد منَّ الله عليَّ تارَةً أُخرى فحصلتُ على درجة الدكتوراه من الكلية ذاتها في عام 2019م، وموضوع رسالتي “التكوين الثقافي لمؤرِّخي مصر والشّام والعِراق في القرن السابع الهجري”، وهي منشورة بالهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة تاريخ المصريين.
ثُمَّ أعددتُ دراسةً مستقلّة عن ابن السّاعي البغدادي المتوفَّى سنة 674هـ/ 1276م، وهو أحد أبرز مؤرِّخي القرن السابع الهجري، وصدرت بعنوان “ابن السّاعي مُؤرِّخ بغداد في القرن السابع الهجري” عن دار نور حوران السورية في عام 2020م.
ولإيماني بأنَّ تاريخنا جزءٌ لا يتجزّأ، حقَّقتُ ثلاثة كتبٍ عن الأَنْدَلُس لكُتَّاب ثلاثة ماتوا في القرن المنصرم: أوَّلهما كتاب “حضارة العرب في الأندلس” لعبد الرَّحمن البرقوقي المتوفَّى سنة 1944م، وثانيهما “في الرُّبوع الأندلسيّة” للأديب السوري سامي الكيَّالي المتوفَّى سنة 1972م. والكتابان نشرتهما دار إشراقة في عام 2022م. أمّا ثالث الثلاثة فهو كتاب “المُجمَل في تاريخ الأندلس” لعبد الحميد بك العبّادي المتوفَّى سنة 1956م، وصدر عن دار إشراقة في هذا العام.
ولدوْر عبد الحميد بك العبّادي في إرساء دعائم الدراسات الأندلسيَّة بالجامعات المصرية، أعددتُ دراسةً عنه بعنوان “عبد الحميد بك العبّادي: المؤرِّخ الأديب”، وهي على وشك الصدور بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
وفي إبّان دراستي للدكتوراه تعرَّفتُ إلى كتاب عظيم الأهمّيّة لعالِم بحّاثة، إنّها رسالة الدكتور جمال الدِّين الشَّيّال المتوفَّى سنة 1967م عن “جمال الدِّين ابن واصِل وكتابه مُفرِّج الكُروب في أخْبار بني أيُّوب”، وهي أوَّل رسالة دكتوراه نُوقِشت بجامعة الإسكندرية تخصُّص التاريخ في عام 1948م، فشمَّرتُ عن ساعِد الجِدّ وعملتُ على تحقيقها، وخرجتْ للنور في هذا العام بدار إشراقة. وهنا لا يفوتني شكر الأستاذ أبو الحسن الجمال لتشجيعه على نشرها.
وما دمتُ في حديث الشكر، فالشكر موصول للدكتور حسام عبد الظاهر، الذي حثّني على تحقيق الجزء السادس (والأخير) من كتاب “مُفرِّج الكُروب في أخبار بني أيُّوب” لابن واصِل الحَمَوي المتوفَّى سنة 697هـ/1297من فاعتمدتُّ في تحقيقه على مخطوطتَي مكتبة باريس الأهلية، وقابلته على نشرتَي بيروت وألمانيا، وتحقيقَي جمال الدِّين الشيال وحسنين محمد ربيع. وصدر أيضًا في هذا العام بمركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية.
واستكمالًا للدراسة والبحث في فترة تخصُّصي الأكاديمي – فضلًا عن دراستي للترجمة بقسم اللغة الإنجليزيةكلية الآداب جامعة القاهرة – ترجمتُ كتاب (الإسلام: مُقدِّمة تاريخيّة/ Islam: An Historical Introduction) للمستشرق الألماني جيرهارد إندريس (Gerhard Endress) الذي قدَّم للترجمة، بالإضافة إلى تصدير الأستاذ الدكتور خالد فهمي، والكتاب قيد النشر بدار ما بعد الحداثة بمدينة فاس المغربية.
كيف ولماذا جاءت ترجمتك كتاب “ستانلي لين بول” (صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس)؟
إنّك تحدِّثني عن أهمّ عمل، سأبدأ من المنتهى وسوف أدلف شيئًا فشيئًا إلى المبتدأ، صدر كتاب “صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس”في شهر يناير الماضي عن الدار المصرية اللبنانية، وقد أهديته للسلطان صلاح الدِّين نفسه، وجاء إهدائي على هذا النحو: “أهدي عملي هذا إلى مَنْ كان سِرَّ تعلُّقي بالشرق، مع أنِّي أندلسيُّ الهوى.. مَنْ كانت الجَنَّةُ آخِرَ ما يرجو من الفُتوح.. أبا مُؤنِسة خاتُون، خاشِعُ القَلْبِ، رقيقُ الدَّمْعة، نَدِيُّ الوَجْه، كثيرُ الحَياءِ؛ لعلِّي أنال رفقتَه في دار القَرَار”.
كنتُ بنَجْوةٍ تامَّة من كتاب “صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس” حتَّى أمسك بيدي إليه أخي الدكتور أحمد سالم سالم، وهو مُترجِم كتاب “تاريخ مصر في العصور الوسطى” للمُؤلِّف ذاته. كانت الرِّيح وقتئذٍ- ولا تزال- صَرْصَرًا عاتِيَةً على صلاح الدِّين، فشرعتُ في الترجمة وأنا في ذروة انشغالي برسالة الدكتوراه، فترجمتُ قُرابة ستِّين ورقةً من أصل الكتاب النائف على أربعمائة، مع التعليق عليها، لكن حدث أنْ تعطَّل “الهارد وير” وضاع كُلُّ ما كان عليه. “مات الفسيلُ” لكنْ لم يَمُتِ الأملُ! فأرجأتُ العملَ حتَّى أنهيتُ رسالتي، ونفسي باخِعةٌ أسَفًا على ما ضاع وتكاد تذهب عليه حسراتٍ. ثُمَّ عاودتُ العمل ثانيًا، والقلب يعتصر ألمًا، وبمددٍ من الله فرَّغتُ له كُلَّ وقتي وجهدي؛ حتَّى استوى على سُوقه وآتى أُكُلَه، و”عاش الأملُ”، فالحمد لله.
ما الصعوبات التي واجهتك في أثناء الترجمة؟ وكيف تعاملت معها؟
ستانلي لين ﭘـول- المتوفَّى سنة 1931م- مُؤرِّخ بريطاني رفيع المستوى، وهو أحدُ أهمِّ العارِفين بتاريخ صلاح الدِّين وسِيرته في العالَم بأَسْره؛ إذ قدَّم لنا دراسةً صدرت عام 1898م، لا تزال تفتقد نظيرًا لها إلى الآن. وإنجليزيتُه ليست سهلةً قريبةً في ظاهِرها وباطنها، بل معانيه تلتوي بك في غرائِب الحكم وعجائب الإشارات والأمثال، وألْفاظُه تركب ثَبَجَ الغريبِ المهجور الذي يجهله أكثرُ النَّاس، ولا يقف عليه إلَّا الثُّلَّةُ المُمتازةُ من المُثقَّفين والقُرَّاء، مُتأثِّرًا في ذلك بالأدب الفيكتوريِّ.
فكنتُ أقف طويلًا أمام لفيفٍ من الكلمات من أجْل انْتِقاء أحاسنها الذي يُناسِبُ سياقَ الكلام. ولا ينقضي عجبي من تضلُّع لين بول، فمن دِقَّته- والشواهد تُعجِز الحصر- أنَّه أثبت صدر بيت أبي العطاء أَفْلَح السِّنْدي المتوفَّى سنة 180هـ/796م: “ذَكَرْتُك والخَطِّيُّ يَخْطِرُ بيننا”، الذي أرسله صلاحُ الدِّين إلى أخيه تُورَان شاه بدِمَشْق في عُقْب كَسْرة الرَّمْلة، بضمير المُخاطَب “Thee”، الذي يشير إلى حالتَي النَّصْب والجَرِّ معًا. ووُفِّق كُلَّ التوفيق في ترجمة كلمة “عَرَار” البقلة المعروفة ببلاد نَجْد إلى “Ox-eyes”. ولمَّا أعيته العربيَّةُ في إيجاد مُرادِفٍ دقيقٍ لكلمة “العَنْقاء” في الإنجليزية استعمل “Falcon” الأقرب للقارِئ الغربيِّ. واستخدم “violent winds” لوصف الرِّيح العاصِف التي منعت جيشَ رِتْشارَد الرّابِض عند قرية بَيْت نُوبَا- القريبة من بَيْت المَقْدِس- من استئناف زحفه نحو المدينة المُقدَّسة.
ومما أعجزني وأعياني هذه الجملة: “If Saladin consulted an augury in the Koran on this occasion, as was his custom, the sacred book led him grievously astray.”، فوقفتُ حيالها حائِرًا، فاستشرتُ المستشرق الألماني جيرهارد إندريس، فبيَّن لي المراد، فترجمتُ الجملة على النحو الآتي: “فإنْ كان صلاحُ الدِّين قد أخَذ الفَأْلَ من المُصْحَف في هذا الأَمْر- كما كانت عادتُه- فإنَّ الكِتَابَ الكريمَ أضلَّه ضلالًا مُبِينًا”. ثُمَّ قلتُ في الهامش: “لعلَّ المُؤلِّفُ هنا يقصد عادةَ صلاح الدِّين في استخارة الله تعالى في أُمورِه كُلِّها. إذ لم يرد أنَّه لجأ إلى زجر الطَّيْر- كفعل أهل الجاهلية- إذا ادلهمت به الخُطوبُ.
وقد أجمع معاصِروه على صفاته التي تنافي ما ذكره المُؤلِّفُ، حتَّى إنَّ بَهاء الدِّين ابن شدَّاد قال: كان “مُواظِبًا على تلاوة القرآن العزيز، عالِمًا بما فيه، عامِلًا به، لا يعدوه أبدًا”، ويُحبُّ سماعَه. وكان “حَسَنَ الظَّنِّ بالله، كثيرَ الاعْتِماد عليه، عظيمَ الإنابة إليه”. كما كان “حَسَنَ العقيدة.. قد أخذ عقيدتَه عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفُقَهاء”. وكان “شديدَ الرغبة في سماع الحديث”، ويُحِبُّ أنْ يقرأه بنفسه. ولم يقرِّب صلاحُ الدِّين المُنجِّمين؛ فسِبْطُ ابن الجَوْزيِّ ذكر أنَّه قبل فتْح القُدْس قال له المُنجِّمون: “تفتَح القُدْسَ، وتذهَب عَيْنُكَ الواحِدَة”، فقال: “رضيتُ أنْ أفتَحَه وأَعْمَى”. ولم يثبت عنه أنَّه أخذ الفألَ من المُصْحَف، بل الثابِت أنَّه استخار اللهَ في تَخْريب عَسْقَلان.
كما واجهتني صعوبة كبيرة في النصوص التي أوردها المؤلف بإنجليزية وفرنسية العصور الوسطى، لاسيَّما المتعلقة بصورة صلاح الدين في أدبيات الأوربية الوسطى، فضلًا عن النصوص اللاتينية المنثورة في تضاعيف الكتاب، فكان مرجعي في فهمها العلّامة الألماني جيرهارد إندريس، كما استعنتُ بصديقي الدكتور هشام محمد حسن المتخصص في اللغة اللاتينية بالجامعة الأمريكية بأثينا.
كما كان المؤلف يُصدِّر فصول كتابه بكتابات كوفية، لم أهتدِ إليها، فساعدني في قراءتها الدكتور علاء الدين عبد العال أستاذ الكتابات والنقوش بكلية الآداب جامعة سوهاج.
لم ينص المؤلف على كثيرٍ من نقوله، فأمَّا نقوله من مظانّ سيرة صلاح الدين العربية، فكان أمرها يسيرًا بفضل الله.. الذي أعياني حقًّا هي تلكم النقول التي كان ينقلها من كتابات الفرنج المعاصرين، فكنتُ أستعين بالمستشرق الإنجليزي ديفيد نيكول (David Nicolle)، الذي قدَّم لي يد العون دونما تقصير.
ورجعتُ كثيرًا إلى صديقي الفلسطيني الصحافي خالد وليد الهواريّ كي أعرف موقع بعض المناطق الفلسطينية على الخريطة الآن، فكان نعم المَعين والمُعين.
مع ذلك، لن أُبالِغَ إنْ قُلتُ: إنَّ لينَ بول بكتابه هذا يُعَدُّ “عُقَاب المُستشرِقين” لألمعيته وتفرُّده.
هل الكتاب ينتمي للسرد التاريخي، أم التناول التحليلي، أم يجمع بينهما؟
سؤال مهم، كتاب “صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس” يجمع بين السرد التاريخي ذي أثارة من أسلوب أدبي رائق، والتناول التحليلي المُبين لبعض ما أثير عن صلاح الدين، لاسيما من قبل المؤرخ عِزّ الدِّين ابن الأثير المُوالي للزنكيين أسياد صلاح الدين الأُوَل.
ويجمُل بنا أن نعرض للكتاب عرضًا مُجمَلًا.. وهو يتكوّن من خمسة أجزاء، سِوَى المُقدِّمة. وهذه الأجْزاء هي: (1) التمهيد، (2) الدِّيَار المِصْريَّة، (3) الإمبراطورية، (4) الجهاد، (5) رِتْشارَد وصلاح الدِّين. وفي كُلِّ جزءٍ منها فصولٌ تُلِمُّ بالتفاصيل.
يتكوَّن الجزء الأوَّل (التمهيد) من أربعة فصولٍ: يتحدَّث في الفصل الأوَّل عن نَجْم الدِّين أيُّوب، ومُساعَدته الجليلة لعِماد الدِّين زَنْكي في عبور نهر دِجْلة ونجاته من جيش الخليفة المُسْتَرْشِد بالله العبَّاسيّ وأعْوانه، ثُمَّ ينتقل بالحديث إلى اضمحلال الخلافة العبّاسيّة، وسطوع نجم السَّلاجِقة- لاسيَّما السُّلْطان مَلِكْشاه الأوَّل ووزيره العظيم نِظَام المُلْك– ونظامهم الإقْطاعيّ وتنظيمهم العسكريّ وتقدُّمهم العلميِّ، ثُمَّ تطرَّق إلى تفكُّك دولتهم وقيام الأتابكيات على أنْقاضها. ويتحدَّث في الفصل الثاني عن الحملة الصليبية الأُولَى وتأسيس مملكة بيت المَقْدِس وغيرها من الإمارات الصليبية ببلاد الشَّام والجَزِيرة، ثُمَّ يختصُّ بالحديث عن الأمير أُسامة ابن مُنْقِذ؛ ليدلف إلى العلاقات بين الصليبيين والمسلمين في وقت السلم والحرب. ويركِّز الفصل الثالث على عِمَاد الدِّين زَنْكي، ودَوْره في احْتِضان آل أيُّوب. أمَّا الفصل الرابع فهو عن جهاد عِمَاد الدِّين للصليبيين، وتحرير إمارة الرُّها، ثُمَّ مقتل عِمَاد الدِّين.
ثم يأتي الجزء الثاني (الدِّيار المِصْريَّة) والذي يتضمن أربعة فصولٍ: أوَّلها يتحدَّث عن نشأة صلاح الدِّين ببَعْلَبَكَّ في إبَّان تولِّي أبيه حكمها، ثُمَّ ينتقل إلى الحديث عن الحملة الصليبية الثانية على دِمَشْق، ويُفصِّل القولَ عن صِبَا صلاح الدِّين بها، ولم يفته الحديث عن عمِّه أسد الدِّين شِيرْكُوه ودوْره في تثبيت أركان دولة نور الدِّين محمود. ويتناول في ثانيها الأحوالَ السياسية بديار مِصْر وقتذاك، وحملات أسد الدِّين الثلاث عليها، وموته بأَخِرةٍ.
ويتحدَّث في الفصل الثالث عن توليه منصب الوزارة للخليفة العاضِد العُبَيْديّ، وقضائه على ثورة العَبِيد السُّودان بالقاهِرة وإفشاله لحصار الصليبيين لدمياط، ثُمَّ يتحدَّث عن غاراته على غزَّة وأَيْلة، ودعوته للخليفة العباسيِّ بديار مِصْر. ويتحدَّث في رابعها عن قصر الخليفة العُبَيْديّ الذي ورثه صلاحُ الدِّين، وكنوز العُبَيْديين، وتشييده لقلعة القاهِرة، ثُمَّ ينتقل بالحديث إلى حصار الشَّوْبَك والكَرَك، وغزو طرابلس الغرب والسُّودان واليَمَن، ثُمَّ يُنهي الجزءَ بالحديث عن حصار الصقليين للإسكندرية.
وأما الجزء الثالث (الإمبراطورية) فيتضمن أربعة فصولٍ: يتحدَّث في أوَّلها عن موت نُور الدِّين، وانقسامات أُمرائه على الوصاية على ابنه الملك الصَّالِح إسْماعيل، ثُمَّ دخول صلاح الدِّين دمشق، ومحاولة الحَشِيشيَّة اغتياله أمام حلب، وانتصاره على الزَّنْكيين في معركتَي قُرون حَمَاة وتلِّ السُّلْطان، ومحاولة الحَشِيشيَّة الثانية اغتياله أمام قلعة أعْزاز. ويتحدَّث في الفصل الثاني عن الحَشِيشيَّة وشيخ الجبل سنِاَن، ثُمَّ ينتقل إلى بناء قلعة القاهِرَة، وكسرة الرَّمْلة، ونصره المؤزَّر بوقعة مَرْج عُيون، وتخريب حِصْن مَخَاضة يَعْقوب عند نهر الأُرْدُنِّ، ثُمَّ عقد هدنة مع الصليبيين، وصُلْحه مع أُمراء بلاد الجَزِيرة وحَلَب وسُلْطان قُونِيَة وملك أَرْمِينِيَة. أما الفصل الثالث فيتطرَّق فيه لموت الملك الصَّالِح، ووداع صلاح الدِّين القاهرة وداعًا لا أوبة بعده، ثُمَّ غزوه بلاد الجَزِيرة، وأخذه حَلَب.
وفي الفصل الرابع من يتحدث لين بول في كتابه “صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس” عن معركة قَلْعة الفُولَة جنوبي النَّاصِرة، وحصارَي قلعة الكَرَك، وعقد هُدْنةٍ مع الصليبيين مُجدَّدًا، ثُمَّ أنهى الفصل بالحديث عن مدينة دِمَشْق ليلقي بك في أتون التفاصيل عن مهامّ صلاح الدِّين كسلطانٍ، وسفارة بَهَاء الدِّين ابن شدَّاد إليه من قِبَل أتابك المَوْصِل وعقد الصُّلْح النهائي مع المَوْصِل.
ويُعَدُّ الجزء الرابع (الجهاد)- في رأيي المتواضع- أهمَّ أجزاء الكتاب، ولعلَّ مردَّ هذه الأهمِّيَّة إلى حديثه عن معركة حِطِّينٍ، وتحرير مدينة القُدْس. ويتكوَّن هذا الجزء من خمسة فصولٍ: في أوَّلها يتحدَّث عن جولة الأمير باليان صاحب يُبْنَى من أجل رأب الصدع بين الصليبيين بعضهم بعضًا، ثُمَّ يتحدَّث عن المناوشات بين جيش صلاح الدِّين والصليبيين عند عَيْن جَوْزَة قرب الناصِرة، ونهب مدينة طَبَرِيَّة، ثم يُفصِّل الحديثً تفصيلًا عن معركة حِطِّينٍ وقتل أَرْناط. وفي ثانيها يتحدَّث عن فتح المدن الفلسطينية التابعة لمملكة بيت المقدس، ثُمَّ ينتقل بالحديث إلى دور المركيس كونراد في إنقاذ مدينة صُور من حصار صلاح الدِّين الأوَّل، ثُمَّ يرجع ليتحدَّث عن فتح عَسْقلان، ودفاع الأمير باليان عن مدينة بيت المَقْدِس وحصار المسلمين لها واستسلامها بأخِرةٍ، وهنا يبسط الحديث عن كرم صلاح الدِّين ونبله تُجاه أهل المدينة المُقدَّسة.
وفي ثالث فصول هذا الجزء يتحدَّث عن أوَّل خطبة أُلقيت في المسجد الأقصى– بل ويورد جزءًا كبيرًا منها- ثُمَّ يتحدَّث عن حصار صُور الثاني وأسباب الانسحاب عنها، ثُمَّ يتطرَّق إلى توغُّل جيش صلاح الدِّين في أقاليم إمارتَي طرابلس وأنطاكية، وفتح قلعة كَوْكَب وصَفَد والكَرَك. وفي رابعها يتحدَّث عن الحملة الصليبية الثالثة، وما جرى في غضونها من ملاحمَ وحروبٍ تُشيِّبُ النواصي، ثُمَّ يتطرَّق إلى حصار قلعة شَقِيف أرْنُون جنوبي لُبْنَانٍ، وبَدْء زحف الصليبيين نحو عكَّا ونجاحهم في فرض الحصار عليها. ويبدأ خامسَ فصلٍ بالحديث عن شروع صلاح الدِّين في فرض حصارٍ على الصليبيين المُحاصِرين لعكَّا، ووصول هنري كونت شامبين وغيره من نبلاء أوروبا إلى معسكر الصليبيين، وهنا يتحدَّث عن معاناتهم بسببٍ من الحصار المضروب عليهم من قِبَل المسلمين.
ويتضمن الجزء الخامس (رِتْشارَد وصلاح الدِّين) ستة فصولٍ: يشتمل أوَّلها على وصول رِتْشارَد إلى عكَّا وما جلبه معه من آلات الحصار، ثُمَّ يتحدَّث عن مُفاوضات حامية عكَّا من أجْل شروط التسليم ليتم تسليم المدينة بأخِرةٍ دون علم صلاح الدِّين. وفي ثاني الفصول يتحدَّث عن مُفاوضات الصليبيين من أجْل عقد الصُّلْح مع صلاح الدِّين، ثُمَّ يتطرَّق لمذبحة رتشارد المشينة مع الرهائن العُزَّل، وزحفه على ساحل البحر المتوسط في طريقه إلى بيت المقدس، ومحاولة صلاح الدِّين عرقلة تقدُّمه، وكسرة المسلمين بأَرْسُوف. وفي ثالث الفصول يتحدَّث عن وصول رِتْشارَد إلى يافا، وتخريب صلاح الدين مدينة عسقلان، ثُمَّ عرض رِتْشارد الصُّلْح بموجب زواج أخته من الملك العادِل سَيْف الدِّين، ثُمَّ يتحدَّث عن مُحاوَلة رتشارد فرض الحصار على بيت المقدس، وإعادة بنائه عسقلان، كما يتطرَّق لمحاولة رتشارد الثانية لأجْل حصار بيت المقدس وانسحابه بأخِرةٍ.
وفي رابع فصلٍ من هذا الجزء يتحدَّث عن فتح صلاح الدِّين مدينة يافا، ثُمَّ إنقاذ رتشارد لها بشقِّ الأنفس، ومن هنا تبدأ مُفاوضات الصُّلْح لكنْ تعكِّرها معركةُ يافا الأخيرةُ لتصفو ثانيةً بعد مرض رتشارد، فلمَّا ضَرِسَ الفريقان وكلَّا تهادنا فيما يُعرَف بمعاهدة الرَّمْلة الشهيرة. ويستهلُّ خامس الفصول بعرض نتائج الحملة الصليبية الثالثة المخيِّبة للآمال وخروج صلاح الدين منها عظيمًا كما كان بعد حِطِّين، فيخطب ودَّه مَلِكُ جورجيا وجاثَلِيقُ أَرْمِينِيَة وسُلْطانُ قُونِيَة، ثُمَّ يتحدَّث عن توافد الحُجَّاج الصليبيين على بيت المقدس واستقبال صلاح الدِّين لهم، ثُمَّ ينتقل إلى مرض صلاح الدِّين لمدة اثني عشر يومًا، وجنازته وقبره، ثُمَّ يتحوَّل تمامًا ليتحدَّث عن مجلس صلاح الدِّين وحديثه، وتقشُّفه وتديُّنه وحبّه للجهاد. لَعَمْري إنَّه كاد يُنْهي الفَصْلَ بقول أبي تمَّام، والذي ختم بَهَاءُ الدِّين به سِيرَةَ صلاح الدِّين:
ثُمَّ انْقَضَتْ تِلكَ السُّنُونَ وَأَهْلُها ** فَكَأَنَّها وَكَأَنَّهم أَحْلامُ
ثُمَّ يختم المُؤلِّفُ كتابَه بفصلٍ- هو غايةٌ في الأهمِّيَّة والخطورة- يتحدَّث فيه عن صورة صلاح الدِّين في الأدب، فيبدأ برواية “رِتْشارَد قلب الأسد” الإنجليزية ويدحض ترُّهاتها دحضًا لا مثيل له، ثُمَّ يتحدَّث عن “حكايات منشد ريمس” الفرنسية، فينسف فكرةَ علاقة الملكة إليانور بصلاح الدِّين من جذورها، هي وغيرها من الحوادث التي لا أساس لها في التاريخ كتعميد صلاح الدِّين! ويطيل النَّفَس في الحديث عن تقليد صلاح الدِّين حزام الفروسية على يد الأمير همفري صاحِب تِبنِين أو الأمير هيو صاحِب طَبَرِيَّة بحسب ما أوردته رواية “وسام الفروسية” الفرنسية، لكنَّه يرجح- إن كان قُلِّد- أنَّ الذي قلَّده هو الأمير همفري صاحِب تِبنِين.
ويولي أهمِّيَّةً كبيرةً بما ذكرته رواية “الطَّلْسَم” الإنجليزية الشهيرة عن صلاح الدِّين، ويدحض بالأدلة عدم لقاء صلاح الدِّين برتشارد ألبتة. ثُمَّ يتحدَّث عن موضوعية مسرحية “ناتان الحكيم” الألمانية واقترابها من الواقع التاريخي كثيرًا. في الختام ينهي هذا الفصل الماتع مُتعجِبًا من أنَّ الشَّرْقَ- مسقط رأس صلاح الدِّين- يكاد يكون أهمله كُلِّيًّا في أدبه الروائي، ويُعلِّل ذلك بأنَّ الشَّرْقَ يعرفه كغازٍ مُظفَّرٍ، بينما يعرفه الغربُ كفارسٍ كريمٍ.
صلاح الدين أحاطت به أقاويل غربية كثيرة، ورؤى استشراقية مبالغة أو مُجحِفة.. كيف تعامل الكتاب مع ذلك؟
هذا كتاب “عابر للقرون”، على حد تعبير الأستاذ الدكتور محمد مؤنس عوض، لأسبقيته؛ فهو أوَّل كتاب صُنِّف باللُّغة الإنجليزية عن صلاح الدِّين، يستقي مادّته من المظانّ العربية والغربية على السَّواء، ويكاد يكون الكاتب موضوعيًّا، باستثناء إشارته المُكرَّرة بأنَّ صلاح الدين قد تقلَّد حزام الفروسية على يد الأمير همفري صاحب تِبنِين.
كما أنَّه ينظر نظرةً عِرقيةً إلى أُصول صلاح الدين الكُردية، فيقول عنه في الفصل الأوّل: “ومع أنَّه شرقيٌّ ومُسلِمٌ، كان ينتمي مثلَنا إلى العِرْق الآريِّ العظيم نفسِه؛ فلم يكُن لا عَرَبيًّا ولا تُركيًّا، وإنَّما كُرديًّا”. وهذا مردود عليه بأنَّ صلاح الدين نشأ نشأةً عربيةً؛ فمصادر سيرته تذكر أنه كان يحفظ أكثر أبيات “ديوان الحماسة”.
ويرى المستشرق الإنجليزي ديفيد نيكول- وهو عين الحقِّ- أنَّ صلاح الدِّين نُشِّئ وعُلِّم في بلاطٍ إسلاميٍّ ذي أَثارةٍ من ثقافةٍ عربيَّةٍ أَصيلةٍ، تسيطر عليه نُخبةٌ عسكريةٌ تُركيَّةٌ؛ فالأُصولُ الكُرديَّةُ للأُسْرة الأيُّوبيَّة خارِجةً بِرُمَّتها عن الموضوع، اللَّهُمَّ إلَّا لكونها مصدرَ دعمٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ لمَّا أمسى صلاحُ الدِّين لاعِبًا رئيسًا في سياسات القُوَّة في أيَّامه. ويُؤكِّد أنَّه في عصر لين ﭘـول أفرط بعضُ المُؤرِّخين في تأكيد الأُصول الكُرديَّة لصلاح الدِّين؛ وذلك لأنَّهم كانوا يُكِنُّون في صُدورِهم إنْكارَ الدَّوْر البارِز لعَرَب منطقة الهلال الخصيب في صُنْع حوادث تاريخهم في إبَّان السادس الهجري.
ما أبرز النقاط التي حرص “ستانلي لين بول” على إبرازها أو تصحيحها في شخصية صلاح الدين؟
ثمَّة أُمور سعى لين ﭘـول إلى تصحيحها في ثنايا الكتاب، منها مثلًا مسألة لقاء صلاح الدين برتشارد التي أوردها السير ولتر سُكُت في رواية “الطِّلْسَم”؛ فيدحضها لين ﭘـول دحضًا بالأدلة لا نظير له، ويثبت عدم لقائهما ألبتة، مبيِّنًا أنَّ الملك العادل هو مَنْ التقاه.
كما سعى لين ﭘـول في الفصل الأخير “والماتع” من الكتاب إلى تحليل الأساطير الغربية عن صلاح الدين، ونسفها من جذوها بأدلة قوية، منها قصة تعميد صلاح الدين! لهذا يُعَدُّ الفصل الأخير في رأيي من أهم فصول الكتاب قاطبةً.
فَتْحُ صلاح الدين لبيت المقدس، وموقفه الكريم مع أهلها.. كيف صوّره الكتاب، وبالمقارنة مع موقف الصليبيين عند السيطرة على مدن المسلمين؟
يقول لين ﭘـول: “لم يَظْهَرْ صلاحُ الدِّين أَعْظَمَ مِمَّا كان عليه في إبَّان دخوله مدينة بيت المقدس. لقد حافَظ حَرَسُه على النِّظَامَ في كُلِّ شارِعٍ، ومنعوا وقوع أيِّ عُنْفٍ أو إهانةٍ؛ حتَّى إنَّه لم يُسمَعْ قَطُّ بأيَّة مَضرَّةٍ لَحَقَت بالمَسِيحيين. أَضْحَى كُلُّ مَخْرَجٍ تحت سيطرته، وعَهِدَ إلى أَميرٍ أَمينٍ بالجُلوس عند باب داود ليتسلَّم الفِدْيةَ من كُلِّ مُواطِنٍ شرع في الخُروج”.
ويذكر أنَّه لما انقضتْ مُدَّةُ المُهْلة المُحدَّدة بأربعين يومًا لخروج الفرنج من بيت المقدس، كان لا يزال هناك آلافٌ من الفُقَراء الذين تركهم بخلاء الفرنج للرِّقِّ. حِينذاك جاء الملك العادِلُ إلى أخيه صلاح الدين وقال: “مولاي! لقد عاونتُكَ- بفَضْل الله- في فَتْح البِلاد وهذه المَدِينة، والآن حان لي أنْ أسألكَ أنْ تعطيني ألفَ أَسيرٍ من فُقَرائِها”. فسأله صلاحُ الدِّين: وماذا أنت صانِعٌ بهم؟ أجاب بأنَّه سوف يَصْنَعُ ما يَسُرُّه. عندئذٍ سلَّمه صلاحُ الدِّين الألفَ أَسيرٍ، فأطلَق العادِلُ سَرَاحَهم جميعًا؛ إكْرامًا للهِ. ثُمَّ أتى البَطْريركُ هرقل والأمير باليانُ واسْتَعْطَفاه أيضًا، فسلَّمهما ألفَ أَسيرٍ آخَرَ فحرَّراهم.
بعد ذلك قال صلاحُ الدِّين لأُمَرائِه: “لقد صَنَعَ أَخي صدقاتِه، وصَنَعَ البَطْرَكُ وباليانُ صَنِيعَهما؛ والآنَ أَودُّ أنْ أَصْنَعُ صَنِيعي”. فأَمَرَ حَرَسَه أنْ يُنادوا عبر شَوارِع بَيْتِ المَقْدِس بأنَّ جميعَ الكُهول الذين لا يستطيعون دفْعَ الفِدْية مسموحٌ لهم بالخُروج. فخَرَجوا من المَمرِّ الخلفيِّ لباب القِدِّيس لَعَازَر، واستمرَّ خُروجُهم من شُروق الشَّمْس حتَّى أَرْخَى الَّليْلُ سُدولَه. “وكان هذا يدًا بيضاءَ وإحْسانًا من جانِب صلاح الدِّين لفُقَراءَ كثيرين لا يحصيهم العَدُّ”.
ويضيف قائلًا: “هكذا أَظهَر المُسْلِمون رَحْمةً تُجاه المَدِينةِ الصَّرِيعةِ. وفي المُقابِل يتذكَّرُ المَرْءُ الغزوَ الوحشيَّ للصَّلِيبيين الأُوَل في سنة 492هـ/ 1099م عندما كان جودفري وتانكرد يَمتطيان صَهْوةَ جوادَيْهما عبر شَوارِعَ مُكْتَظةٍ بالقَتْلَى والمُحْتَضَرِين، حينما عُذِّب المُسْلِمون العُزَّلُ وحُرِّقوا وقُتِّلوا بِدَمٍ بارِدٍ على أَبْراجِ الهَيْكَل وسطحِه، حيث لوَّثتْ دِماءُ المَذْبَحةِ الغاشِمةِ شَرَفَ المَسِيحيَّةِ ولطَّختْ المَوْضِعَ الذي كان يُوعَظُ فيه يومًا بإِنْجِيلِ المَحبَّة والرَّحْمة. وذهبتْ “طُوْبَى للرُّحَماءِ؛ لأنَّهم يُرْحَمونَ” أدْراجَ الرِّياح حينما حوَّل الصَّلِيبيون المَدِينةَ المُقدَّسةَ إلى مكانٍ للذَّبْح. لقد كان المَحْظُوظون هم أنفسهم عديمو الرَّحْمة؛ لأنَّهم نالوا رَحْمةً على يدَي سُلْطانٍ مُسْلِمٍ.. إنْ كان أَخْذُ بَيْتِ المَقْدِس هو العَمَلَ الوَحِيد الذي اشتهر به صلاحُ الدِّين، فهو كافٍ لإثْبات أنَّه أَعْظَمُ الفاتِحين شَهامةً وشَجاعةً في عصره، بل رُبَّما في كُلِّ العُصور”. ففي الحقِّ، إنَّه شهد شهادةَ مُنصِفٍ.
الحروب الصليبية كانت محطة مهمة من محطات تلاقي الشرق والغرب؛ سواء تحت أسنة الرماح، أو في تعامل واستكشاف كل طرف للآخر، في فترات السِّلم.. كيف أبرز الكتاب ذلك؟
مما يُظهِر عبقرية لين ﭘـول أنَّه استهلَّ كتابَه بتقديمٍ ضافٍ عرض فيه لوضع الشرق قبل مجيء الحملة الصليبية الأُولى؛ فأظهر التقدُّم العلمي الذي أحدثه السَّلاجِقة، لاسيَّما على يد وزيرهم الأعظم نِظَام المُلْك مُؤسِّس المدارس النِّظَّاميّة ذائعة الصيت، مبديًا إعجابه بكتابه “سياست نامه. وهو بعرضه هذا يُبيِّن للقارئ الغربي أن المسلمين لم يكونوا يعيشون وقتئذٍ في غيابات الجهل.
ثُمَّ أخذ في تبيين علائق المسلمين بالفرنج، بالاستناد إلى “كتاب الاعتبار” للأمير أسامة ابن منقذ. فيذكر على سبيل المثال أن ابن منقذ يرسم خطًّا واضِحًا للتفريق بين الفِرِنْج المُستوطِنِين الأُوَل الذين قدِ اعتادوا على الحياة الشرقيَّة وأصبحوا أصدقاء مع جيرانهم المُسْلِمين، وبين الوافِدين الجُدُد، الذين أدَّى تَحمُّسُهم الطَّائِشُ ورَغْبتُم في السَّلْب إلى إفْساد النِّظام القائِم على التَّفاهُم الجيِّد الذي قد تأسَّس بين المسلمين والفرنج في فِلَسْطِين. فيورد قوله عنهم: “ومن الإفْرِنْج قَوْمٌ قد تبلَّدوا وعاشَروا المُسْلِمين؛ فهم أَصْلَحُ من القريبي العهد ببلادهم… فكلُّ مَنْ هو قريبُ العهد بالبلاد الإفْرِنْجيَّة أَجْفَى أخلاقًا مَنِ الذين قد تبلَّدوا وعاشَروا المُسْلِمين”.
ثم بيَّن أن ابن منقذ كان يضيق ذرعًا بالحُرِّيَّة غير المألُوفة التي سمح بها الأزْواجُ الصَّلِيبيون لزوجاتهم، وأورد قوله: “وليس عندهم شيءٌ من النَّخْوة والغَيْرة. يكون الرَّجُلُ منهم يمسي هو وامرأته يلقاه رَجُلٌ آخَرُ يأخُذُ المرأةَ ويَعْتَزِلُ بها ويتحدَّث معها، والزَّوْج واقِفٌ ناحيةٍ ينتظر فَراغَها من الحديث! فإذا طوَّلتْ عليه، خلَّاها مع المُتحدِّث ومضى!”.
ما الذي تبقى من شخصية صلاح الدين، بالنسبة لنا نحن المسلمين.. وللغربيين أيضًا؟
هاهنا حقيقٌ عليَّ أن أقول كلمةَ إنصافٍ في حقّ لين ﭘـول، فالرجل عندما تحدَّث عن شخصية صلاح الدين تحدَّث حديثَ مُحِبٍّ مُقدِّرٍ، قائلًا: “المُداراةُ كانت السِّمةَ الغالِبةَ على شخصيته. ولمَّا فتَّشنا في أوْصاف أقْرانه من المُلوك عن خِصالٍ مُشْتَرَكةٍ، رجعنا خالِينَ الوِفاض. فالكِبْرِياء؟ لا يَرِدُ ذِكْرُها؛ لأنَّ الهَيْبةَ التي وُهِبَها نَبَعَتْ من المَحبَّة التي تَطْرَحُ الخَوْفَ. والدَّوْلة؟ بِمَنْأى عن تبنِّي لَوائِحَ رادِعةٍ وأساليبَ صارِمةٍ؛ فالحاكِمُ لا صِنوَ له في حُسْنِ عِشْرتِه ولِينِ عَرِيكتِه… جعلتْ رَأْفتُه وخَيْريَّتُه التي فُطِرَ عليها كُلَّ فَرْدٍ آمِنًا على نفسِه؛ فعِوَضًا عن قَمْع حُرِّيَّة الحديث، تَرَكَ الكلامَ يُلْقَى على عَواهِنه… فهو لم يُولِعْ بِشَتْمٍ، ولم يَسْمَحْ في جَنْبِ امْرِئٍ بأيِّ اسْتِهْزَاءٍ أو ازْدِرَاءٍ مُبيِّنَيْنِ. ولم يَسْتخدِم لَفْظةً فَظَّةً قَطُّ، أو رَضِيَ بها. وحَفِظَ لِسانَه- حتَّى وهو غَضْبانُ أَسِفٌ- أيَّما حِفْظٍ، ولم يكُن قَلَمُه أَقَلَّ تأدُّبًا: فما عُرِفَ عنه قَطُّ أنَّه كَتَبَ كَلِمةً لإيذاء مُسلِمٍ”.
فأنا بدوْري أرى أنَّ أهمَّ الدروس الباقية من سِيرة صلاح الدِّين، هي تلكم الشمائل التي أسر بها لُبَّ أعدائه.