مع عيد الفطر تتوالى الأسئلة، وتختلف وجهات النظر، وتتعدد الآراء حول مدى جواز الاحتفال بالعيد في ظل ما يجري لإخواننا في قطاع غزة من حرب لم تدع شيئًا إلا وأهلكته، أسئلة يُلمس منها العجز وقلة الحيلة حينًا مع الرغبة في تقديم شيء لهم، أو الرغبة في رفع العتب والتنصل من المسؤوليات المترتبة على العيد حينًا آخر، ونحن في كلا الحالتين أمام أمرين شرعيين لا مفر لأحد منهما: أمر بوجوب نصرة إخواننا في غزة والوقوف معهم والشعور بمصابهم الذي ما زال ينزل بهم منذ ستة أشهر ذاقوا فيها كافة أصناف القتل والتدمير والتهجير والتجويع. وأمر آخر يندُبُنا إلى الفرح والسرور والتوسعة على أنفسنا والابتهاج بالعيد بعد شهر من الصيام والقيام والطاعات والقربات. مما يجعل المسلم في حيرة من أمره، إن أظهر فرحه وسروره متناسيًا ويلات إخوانه فيكون خارجًا عن صف الأمة الواحدة والجسد الواحد، وإن جلس في بيته حَزَنًا على حال إخوانه واعتزل الاحتفال بالعيد فيكون قد خالف هدي النبي محمد ﷺ، فماذا نفعل، وبأي الأمرين نأخذ؟
في الحقيقة وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم فلسفة الأمة الواحدة وفلسفة العيد في الإسلام، لننطلق من هذا الفهم والتأصيل إلى معرفة الواجب علينا فعله كمسلمين في هذا العيد في ظل ما يعيشه أهلنا في غزة مما لا يخفى على أحد.
مفهوم الأمة في الإسلام
فعندما نتحدث عن مفهوم الأمة في الإسلام فإننا ننطلق في ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهو فيهما ليس مرادفًا للشعب، ولا للقوم، ولا للدولة، بل هو عابر للشعوب والأقوام والدول بل والقارات أيضًا، حيث إن مفهوم الأمة في التراث الإسلامي مرتبط بشكل مباشر بالدين، وبالعقيدة منه على وجه الخصوص. وعليه فإن الوحدة العقدية هي الرباط المشَكِّل لمفهوم الأمة الواحدة في الإسلام وبه يبدأ اجتماع المنتسبين إليه على تباعد ديارهم واختلاف ألوانهم أجناسهم ولغاتهم، وينتهي بالوحدة كتطبيق اجتماعي ينصهر فيه كافة مكونات المجتمع ليشكل نسيجًا مترابطًا يجمعهم.
وعلى هذا دلت آيات القرآن الكريم، حيث إن إيماننا بالله الواحد يحتم علينا التوجه إليه بشعائر تعبدية موحدة يستوي فيها جميع الناس، الأمر الذي من شأنه أن يشكل مفهوم الأمة الواحدة، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى في موضعين مختلفين حيث قال:{وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } [المؤمنون:52]، وفي الموضع الآخر قال: { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء:92]، الأمر الذي من شأنه أن يؤكد على عالمية هذا الرباط العقدي.
إن مفهوم الأمة الواحدة الناشئ عن وحدة الدين والعقيدة من شأنه أن يوحد ولاءنا، ويعمق تلاحمنا، ويوثق رابطتنا، ويرسخ أخوتنا، “فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” متفق عليه، و { المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71]، و { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات:10]، و ” المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله” (صحيح مسلم).
ولقد تجسدت كل هذه المعاني التي ترسخ مفهوم الأمة الواحدة في الخطاب القرآني، فجاءت الأوامر والنواهي بصيغة عامة ينضوي تحتها كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنا نجد القرآن كثيرًا ما يستخدم اللفظ المفرد الذي يدل على الواحد ويريد به الجماعة في إشارة إلى معنى الوحدة، فقد جعل القرآن لمز المسلم لأخيه لمزًا لنفسه فقال: { ولا تلمزوا أنفسكم } [الحجرات:11] والمراد لا تلمزوا غيركم، إذ من غير المعقول أن يلمز الإنسان نفسه. وبنفس الطريقة أتى قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم } [النساء:29] أي لا يقتل بعضكم بعضًا، فجعل قتل الرجل لغيره قتلًا لنفسه كما بين ذلك القرطبي حيث قال: “أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضًا، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه [الجامع لأحكام القرآن، ج5، 156].
إن المعنى المؤثر الذي يدور معه مفهوم الأمة الواحدة هو العقيدة، فحيث وجدت عقيدة الإسلام وجد معها مفهوم وحدة الأمة، وهذا بدوره يقتضي عدم إمكان تحقق هذا المفهوم وانضواءه أو خضوعه لأي كيان آخر من قومية أو عرق أو لون أو لغة، فهو يتعلق لزومًا بمبدأ الاستقلالية القائم على التوحيد للخالق والوحدة للخلق، إذ إنه المفهوم الجامع لكل مكونات العالم الإسلامي، والذي يجب على كل مسلم أن يحافظ عليه بعيدًا عن المفاهيم التفكيكية القائمة على أساس العرق أو القوم أو الجنس أو اللون أو اللغة وما إلى ذلك من مفاهيم تخل بالمعنى الحقيقي لوحدة الأمة مصداقًا لقوله تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات:13].
إن من تجليات معنى وحدة الأمة في الإسلام وحدة الشعائر التعبدية، فالمسلمون أينما كان مكان تواجدهم يتوجهون إلى قبلة واحدة في صلاتهم، ويصومون شهرًا واحدا، ويحجون إلى بيت واحد، ويحكمهم في كل ذلك وغيره كتاب ربهم وسنة نبيهم، لا فرق بينهم فيها إلا بالتقوى، والأمر ليس بمقتصر على وحدة الشعائر بل تعداه إلى وحدة المشاعر كذلك فالمؤمنون “في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (صحيح البخاري).
وهنا يأتي السؤال المهم في ظل الحرب الهمجية التي يشنها الاحتلال الصهيوني على أهلنا في قطاع غزة، ما هو الواجب علينا كأمة إسلامية واحدة تجاه ما يجري لهم من قتل وتدمير وتهجير وتجويع؟ هل نجلس في بيوتنا حزنًا وكمدًا على حال إخواننا؟ وبهذا نكون قد خالفنا هدي نبينا ﷺ في العيد، ولم نغير في حال إخواننا شيئًا. أم نظهر فرحتنا وسرورنا واحتفالنا وابتهاجنا في العيد فنكون بذلك خرجنا عن معنى الأمة الواحدة والجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟
فلسفة العيد في الإسلام
في الحقيقة فإنه لا تعارض بين مفهوم الأمة الواحدة، وإظهار شعيرة من شعائر الدين الإسلامي بالاحتفال في العيد، وبيان ذلك يكون من خلال فهم فلسفة العيد في الإسلام، فالعيد ليس المقصود به ذات اليوم الذي يأتي بعد شهر الصيام أو بعد الوقوف بعرفة، وإنما ما يحتويه هذا اليوم من معاني تجعل له أثرًا في حياتنا، لا مجرد يوم تطغى فيه مظاهر الثياب الجديدة على جوهر المعاني الفريدة.
إن فلسفة العيد في الإسلام قائمة على فكرة هادفة يتجلى فيها معاني الأخوة ووحدة الأمة، ويتحقق فيها الشعور الإيماني الروحاني والتضامن الأخوي الإنساني، وليس تقليدًا أجوفًا يُظهر بُعدا ماديًا وسلوكًا حيوانيًا لا يتجاوز حدود المظاهر الباهتة من الملابس الجديدة وأصناف المطعومات والمشروبات والحلويات، والتجول في الطرقات والمتنزهات. ومن أجل تحقيق هذه الفكرة فرض الله علينا زكاة الفطر لتكون طُعمة للمساكينِ؛ ليستغنوا بها عن السُّؤالِ يومَ العِيدِ، ويشتركوا مع الأغنياءِ في الفرح.
إن الشعور بالعجز الذي ينتاب كثير من المسلمين اليوم تجاه إخوانهم في غزة، يجب أن لا ينعكس برد فعل سلبي على مظاهر العيد لا يعود بالفائدة على أحد، فإنك بجلوسك في بيتك عاجزًا، أو بتغافلك عن حال إخوانك فإن ذلك لن يحقق لك فرحًا بالعيد، ولا نصرة لإخوانك، بل إن هذا الشعور يجب أن يكون منطلقًا للتغير، فأعياد المسلمين مصدر قوة متجددة للانبعاث من جديد، وقدرة على تغيير الأوضاع والأحوال، لا مجرد القدرة على تغيير الثياب وأصناف الطعام والشراب.
ففرحة العيد تكون بإدخال الفرح والسرور على قلب إخوانك هناك، وبأن تخلفهم في أموالهم وأولادهم وأزواجهم، فرحة العيد تكون بمساهمتك في رفع الظلم عنهم ومساندتهم كل بما يقدر عليه، فرحة العيد لا تكون إلا بحضورهم معك وحضورك معهم في كل جزء من أجزاءه، فإن كنت خطيبًا للعيد فاجعل الحديث عن واجب الأمة تجاههم أولى أولوياتك، وإن لبست الجديد فاجعل لهم من مثله نصيبًا من ثيابك، وإن أكلت الثريد فتصدق بمثل ثمنه عليهم من مالك، والزم الأدب على مواقع التواصل، فلا تنشر صور اجتماع الأحباب، ولا مظاهر الطعام والشراب؛ فإن قلوبهم منهكة بألم الفقد، وبطونهم فارغة من شدة الفقر، وأبدانهم متعبة، وبيوتهم مهدمة، وحالهم لا يخفى على أحد.
وبناء على ما سبق فإن شعيرة العيد بهذا الفهم عند المسلمين تعبر عن مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية بشكل إيجابي حيث لا تعارض بينهما، والمطلوب هو استثمار هذه الشعيرة لتغيير حالهم للأفضل، لا أن نقعد عاجزين لا نحرك ساكنًا، والمطلوب أن ندخل الفرح على قلوبهم لا أن نبقى في حالة حزن سلبي معهم. فمجرد الشعور بالحزن دون العمل على التغيير لا يجدي نفعا ولا يبدل واقعًا و {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد:11].