كلما اطلع المرء على سير المستشرقين، تلقفته موجتان متناقضتان من الانفعالات:الموجة الأولى: الإعجاب والانبهار بما تضمنته سير أولئك القوم من الخصال المحمودة في ذاتها، كالجلَد المدهش، والاجتهاد الشديد، والتضحية الجمة والإقبال على التعلم، وركوب المخاوف والمخاطر في سبيل الوصول إلى أهدافهم وأهداف من أرسلهم.والموجة القانية: الاشمئزاز والاحتقار للأهداف الوضيعة التي يعملون من أجلها، والوسائل التي ينتهجها البعض منهم، والتي تتنزل إلى دركات الانحطاط الأخلاقي في أحيان كثيرة.

وضيف هذه المقالة واحد من أولئك المستشرقين، نهض بدور شديد الخطورة في خدمة الأطماع الغربية، وهو الرحالة الإيطالي فارتيما، الذي يقال إنه أول مستشرق يجرؤ على اقتحام مكة المكرمة التي لا يُسمح بدخولها لغير المسلمين، وذلك في مطلع القرن العاشر الهجري، إضافة إلى مغامرات سيشار إلى بعضها في أثناء هذه المقالة.

في مطلع القرن العاشر الهجري، كان للمسلمين شوكةٌ في الأرض، فقد كانت الدولية العثمانية في وضع الفتوة والعنفوان، وكان للمماليك في مصر صولة وجولة، وكانت ثمة سفنٌ لبحارة مسلمين من بلاد المغرب العربي، تجوب البحر الأبيض المتوسط فتغير على سفن الأوربيين وتسلبها، وتهدد تجارتها، وكان الأوربيون ينظرون إلى المسلمين نظرة المحارب إلى خصم غامض يجهل ما يكون بالضبط! وكما يفعل كل فطن، فقد راح الأوربيون يتعرفون إلى خصمهم قبل أن يتحركوا ضده، وكان “الاستشراق” رأس حربتهم في عملية اكتشاف العالم الإسلامي، إضافة -بطبيعة الحال- إلى الأساطيل التي أخذت تجوب البحار، وتقصف السواحل، وتقيم المرافئ لشحن البضائع.

في سبيل ذلك، نشأت كليات ومعاهد مختصة، وظهر أقوام مختصون في التاريخ الإسلامي، ودارسون للغة العربية، وللوحي من كتاب وسنة، وللتراث الإسلامي في مختلف حقوله، ومحققون يتتبعون المخطوطات وأمات الكتب الإسلامية، وجواسيس يتخفون في أزياء تجار أو حجاج، وكان لودوفيكو دي فارتيما واحداً من هؤلاء!

بروح شغوف بالترحال، انطلق فارتيما من إيطاليا بحراً إلى الإسكندرية، وانحدر منها جنوباً إلى القاهرة، ثم أبحر من مصر إلى بيروت، ، وتجول في مدن الشام: طرابلس، وحلب، وحماة، ومنين، ودمشق، التي مكث فيها شهوراً يتعلم العربية، قبل أن يقرر الانطلاق إلى مكة المكرمة في عام ٩٠٨ للهجرة، الموافق لـ ١٥٠٣ للميلاد ضمن قافلة من قوافل الحج، ولكي يحصل على أقصى درجة من الأمان، فقد صادق قائد القافلة، الذي كان من المماليك.

وقد تحول فارتيما -بقدرة الله- إلى “الحاج يونس المصري”، واستطاع إقناع قائد القافلة بأن يدخله في زمرة المماليك وأن يلبسه زيهم العسكري، وهذا يعدّ غطاءً جيداً لفارتيما في مهمته التجسسية الخطرة، وهي الاطلاع على المجتمع الإسلامي من الداخل، وعلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مدينة المسلمين الأولى، مكة المكرمة، وفي مختلف حواضرها.

صورة مقال فارتيما.. طليعة محاولات احتلال مكة
من كتاب الرحالة الإيطالي فارتيما عن الجزيرة العربية

سارت القافلة نحو الحجاز مارةً بالمزيريب، ووادي البحر الميت، حتى بلغت القافلة المدينة المنورة، وبعد أربع ليال من المقام في المدينة، واصلت القافلة رحلتها إلى مكة المكرمة، التي أعجب فارتيما بجمالها، إذ قال يصفها: إنها مدينة رائعة الجمال، قد أحسن بناؤها، وتضم حولي ٦٠٠٠ أسرة، ومنازلها جيدة تماماً كمنازلنا “في إيطاليا”…

وبعد أن انتهى الناس من شعائر الحج غادر فارتيما إلى جدة، وأبحر جنوباً إلى جيزان في جنوب المملكة العربية السعودية حالياً، ثم إلى عدن، التي مثّل فيها فارتيما دور الرجل المجنون، الذي يحصب الصبيان بالحجارة ويبادلونه الرمي، والذي لا يرى مانعاً من إتيان ما يأنف العاقل إتيانه، من التعري والحركات التي تدل على جنون حقيقي، ما أدى إلى حبسه في قبو قصر الحاكم، وبعد مدة أطلق سراحه فتجول في أنحاء اليمن، وغادر اليمن من بعدُ إلى القارة الإفريقية، فزار مدينة زيلع، وجزيرة بربرة.

وفي رحلة أخرى زار فارتيما بلاد فارس، وخراسان، وبلاد ما وراء النهر، واتسعت رحلاته لتشمل الهند التي زارها عدة مرات، واستطلع أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد تقمص في الهند شخصية الحاج يونس العجمي “الفارسي”. ثم زار سيلان وأبحر شرقاً إلى بلاد الملايو، وعاد إلى بلاده مروراً بالهند والساحل الإفريقي الشرقي. وقدّم فارتيما حصيلة أسفاره في تقارير إلى حكومة البرتغال.

استغرقت رحلات فارتيما في العالم الإسلامي ست سنوات، ويصف د. عبدالرحمن الشيخ هذه الرحلات بـ”الجناح البري لجهود البرتغاليين في اكتشاف الطرق المؤدية إلى ثروات الشرق عامة، والهند خاصة، وجهودهم كذلك لتطويق العالم الإسلامي”.

حتى ندرك خطورة الدور الذي لعبه فارتيما، فلا بد أن نتذكر أنه في تلك الحقبة من مطلع القرن العاشر الهجري، كان البرتغاليون قد خطوا خطوات عملية حقيقية نحو احتلال الحرمين الشريفين الواقعين تحت نفوذ المماليك حينها، وقد بذل المماليك جهداً كبيراً في محاولة الدفاع عن الحرمين الشريفين ضد الأطماع البرتغالية.

قام البرتغاليون بمهاجمة اليمن، واشتبكوا مع المماليك في معارك بحرية، انتصر المماليك في بعض المعارك، لكن الغلبة في نهاية المطاف كانت للبرتغاليين، وبعد أن انكسر أسطولهم، سعى المماليك لتحصين مدينة جدة، التي تعدّ بوابة مكة المكرمة، والتي كان البرتغاليون يستهدفونها في المرحلة الموالية، وظل الحرمان الشريفان تحت التهديد البرتغالي لعشرات السنين، إذ لم يبتعد البرتغاليون عن الجزيرة العربية إلا عام ٩٩٨ للهجرة، بعد جولات من المعارك البحرية بينهم وبين الجيش العثماني الذي دخل مؤخراً في المعادلة وتولى مسؤولية الحرمين الشريفين.

لقد كان المستشرقون جنوداً في جيوش الاستعمار الأوروبي لبلاد المشرق، صحيح أنهم لم يحملوا السيوف ولم يطلقوا المدافع، لكنهم كانوا يحملون سلاحاً أخطر، هو سلاح المعلومات التي حصلوها عن العالم الإسلامي، بعدما تسللوا إليه بوسائل متفاوتة بين الشرف والخسة!