يقف الناس مشدوهين بين فتنتين فتنة وقعت في زمن لم نحيا فيه وأخرى ستقع في المستقبل والله وحده يعلم من سيدركها وبين هذه وتلك يتأملون ويحللون ويتوقعون وينسون ما هم بصدده من فتن تعرض على قلوبهم صباح مساء.
ولعل الذي يحملهم على التفكر في فتن آخر الزمان ما يراودهم من شعور باقتراب نهاية العالم؛ وذلك لما يرونه من اختلال الموازين وغياب الضمير وانتشار الظلم وخفوت صوت الحق، وكأن هذه الأعراض جديدة على البشرية لم ترها من قبل. لقد مر على بني آدم ما يشيب له الولدان حتى قال ابن الأثير في كتابه” الكامل في التاريخ” عن فتنة التتار” لو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن، لم يبتل بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها…ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج” أقول: ذكر ذلك ابن الأثير في حوادث 617هـ وكم مرت على البشرية من فتن وبلايا – بعد ذلك – ولا زال نهر الحياة يجري.
وبتتبع ما ورد في القرآن من لفظ الفتنة تجد أنها تعود إلى معنى الاختبار قال الراغب في كتابه مفردات ألفاظ القرآن أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ..وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، وقد قال فيهما: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. ويذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى أن الفتن والفتون والفتنة: اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحل به” وعلى ذلك فكل الخلق معرضون للفتنة {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]
وقد وقعت الفتن للأنبياء ففي شأن موسى عليه السلام يقول تعالى {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] والفتنة التي تعرض لها عليه السلام هي كل مالاقاه في صغره وكبره من فرعون، وفي شأن سليمان عليه السلام يقول الله { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } [ص: 34]وقد ذكر المفسرون في تفسيرها أقوالا أغلبها يجل مقام سيدنا سليمان عليه السلام عنها وبمجرد النظر إليها تجد أوجه شبه كبيرة بينها وبين الخرافات.
فتن مرت على البشرية كلها بدأت بالأنبياء -وهم في القمة من بني آدم -ومرورا ببقية الخلق فبعضهم لبعض فتنة {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]، انظر في أحوال الخلق تجد التفاوت بين الأخلاق والأرزاق والعقول والأجساد فمن الناس من حَسُن خلُقُه وتشبه بالأنبياء ومنهم من ساء خلُقُه حتى إذا ذكر استعيذ بالله من شره كما يستعاذ من شر الشياطين ومن الناس من هو تحت خط الفقر بمراحل كل أمنيته فتات الموائد ومنهم من إذا سأل كم ثروتك؟ قال تريد الجواب قبل أن تسألني أم وقت أن سألتني أم بعد انتهائك من السؤال الأمر يختلف؟!! ومنهم من يعجز عقله عن إدراك أوضح الأمور ومنهم من يملك القدرة على الغوص في أعماق المسائل ومن الناس من يعجز عن دفع أقل الأذى عن نفسه ومنهم من هو بألف رجل أو يزيدون وسبحان مقسم الأرزاق، هؤلاء جميعا يفتن بعضهم ببعض فهل يراعي القوي حق الضعيف أم يفتك به؟ وهل يحنو الغني على الفقير؟ وهل يرضى الفقير بقسمة الله تعالى للأرزاق؟ كل ذلك موضع للفتنة.
وعندما نسمع كلمة الفتنة ينصرف الذهن إلى حالة من الالتباس يعجز العقل عن تمييز الحق فيها من الباطل ومن تلا القرآن حق تلاوته استطاع التمييز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال: 29]
فقه التعامل مع الفتن
وربما دفع الخوف من الفتنة إلى العدول عن اتخاذ بعض القرارت التي لا تحوز رضا من لم يقف على حقيقة الأمر ؛ فلما لام موسى عليه السلام هارون عليه السلام على عدم إبلاغه بعبادة بني إسرائيل للعجل قال هارون عليه السلام:” (إِنِّي خَشِيت أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي إني لم أعنف معهم، ولم ألحق بك بل أخذتهم بالرفق خشية أن يتفرقوا، وخشيت أن تقول لي إني أوقعت فرقة بينهم، وفي الفرقة يقاوم كل فريق الآخر في قوله، فتكون المجادلة، ويضل فريق، ويهتدي فريق،..فلو قاومت الضالين، لكانت الحدة والمنازعة والمهاترة، فتركتهم حتى تجيء أنت من لقاء الله تعالى، فيكون معك نوره، فتكون الهداية.
.. وإذا كانوا قد ضل بعضهم فهدايته ممكنة وعودته إلى الحق قريبة، ولكن عند التفرق يكون التعصُّب، وتكون الفتنة بينهم في جموعهم، وهي تزيد فتنة العبادة حدَّة، فلا يمكن حينئذٍ أن يجتمعوا، إذ تتسع هوَّة الافتراق) [زهرة التفاسير للشيخ أبو زهرة بتصرف].
ومثال آخر عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ – ﷺ – قَالَ لَهَا: “يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ.[صحيح البخاري]
هدمت الكعبة وبنيت عدة مرات أدرك النبي ﷺ واحدة منها قبل النبوة وفي هذه المرة قررت قريش ألا تستخدم من الأموال في بناء الكعبة إلا ما كان حلالا خالصا وكانت الأموال الحلال قليلة فبنوها بناء كان أقل من بناء إبراهيم عليه السلام لما أظهر الله الإسلام فكر النبي ﷺ في هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام وهذا أمر في غاية الحسن لكن خشيته ﷺ من الفتنة بين الناس -لقربهم من زمان الجاهلية- التي تؤدي إلى ارتدادهم عن الإسلام أو ذهاب هيبة الكعبة من قلوبهم ؛هو الذي منعه من إعادة بناء الكعبة قال الشيخ الزرقاني في شرحه لموطأ الإمام مالك:”وفيه ترك ما هو صواب خوف وقوع مفسدة أشد واستئلاف الناس إلى الإيمان واجتناب ولي الأمر ما يتسارع الناس إلى إنكاره وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا
مجالات الفتنة
1- { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15]فتنة في كسبه وفتنة في إنفاقه يشتد بريق المال وتزداد نهمة الإنسان له فلا يوقفها إلا رعاية حدود الله تعالى واعتقاد أن ما عند الله خير وأبقى فما عند الناس قد يغرق أو يحرق أما ما عند الله تعالى فعطاء غير مجذوذ
2-ما ورد في قوله ﷺ مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ.[ صحيح البخاري] فإذا استعبدت المرأة عقل زوجها وقلبه وحالت بينه وبين البر بأبيه وأمه وحالت بينه وبين إخوانه وأخواته ومنعته من صلة رحمه ودفعته دفعا إلى طلب المال من حلال أو حرام وأغرته بمعصية الله فهي فتنة وأي فتنة وإن كانت من الصالحات القانتات التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فهي كما وصفها رسول الله ﷺ « الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ »[ صحيح مسلم]. وقد ذكر النبي ﷺ حسن صنيع خديجة – وهي امرأة – فقال عنها ” آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ” ولعلك تقول إنها زوجة نبي الله ﷺ وأقول لك استمع إلى ما قالت زوجة عدو الله { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]
عودا على بدأ لن يُسأل أحدا عن فتنة لم يشهدها سواء حدثت قبل ميلاده أو بعد وفاته السؤال الذي يهمنا هو ما موقفنا نحن مما نتعرض له من فتن؟ ولعل الدرس الذي ينبغي أن نعيه من الفتن التي مرت بالإنسانية قبل وجودنا هو الاعتبار بمصير الظالمين ومن ترك طريق الحق وأن لكل شدة انفراجة يعلم الله تعالى وقتها أما بالنسبة لما يستقبل من الفتن فإدراك أن سوق الدنيا سينفض وأن استمساك المؤمن يإيمانه واستعصامه بالله في وقت الرخاء ينجيه وقت الشدة.