يعيش المسلمون اليوم تدهورا في جل مجالات الحياة من أهم أسبابه تدهور العلاقة بالقرآن الكريم الذي مثل مرجعيتهم الأساسية منذ نزوله. فرغم الاهتمام بتلاوته وترتيله وسماعه وحفظه، لا تزال روح القرآن غائبة على مستوى السلوك الفردي والجماعي وعلى صعيد الأمة الحضاري، رغم أنه كان في القرون الأولى للإسلام مؤثرا في سلوك المسلمين ومحركا أساسيا لحضارتهم.
فكيف نحول فهمنا للقرآن اليوم إلى هداية على مستوى الفرد وإلى نهوض حضاري؟
القرآن الكريم هو أساسا كتاب هداية : “إن هذا القرآن يهدى للتي هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا”.
إن توجيه قراءة القرآن نحو هذه الهداية لا بد أن يتم من خلال المستويات التالية:
– الهدف من هذه القراءة
– منهجيتها وعلاقتها بمحيط الإنسان التالي لكتاب الله
فعلى مستوى الهدف والغاية، لا بد أن يكون الهدف الاساسي من التلاوة هو تحقيق الهداية الشاملة المؤدية إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، فإذا اعتبر المسلم القرآن أساسا كتاب بركة أو لربح الحسنات، حول الهدف الأساسي لكتاب الله وحجب نفسه وقلبه عن المعاني الأساسية للقرآن والمقاصد التي أنزل من أجلها ولم يحقق من تلاوته إلا البركة والحسنات التي تلاه من أجلها. لذلك فإنه من الضروري استحضار نية البحث عن الهداية في كل تلاوة وتدبر للكتاب الحكيم.
أما على مستوى المنهجية فلا بد أن يكون منهج التلاوة على سبيل التلقي أي أن ينزل المسلم على قلبه آيات القرآن كأنها تنزل عليه أول مرة.
يقول د.فريد الأنصاري رحمه الله في كتابه(مجالس القرآن):”وتلقي القرآن بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ؛ إنما يكون بحيث يتعامل معه العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنـزله الآن غضا طريا! فيتدبره آيةً، آيةً، باعتبار أنها تنـزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه! ”
و حتى تكون هذه الهداية شاملة، لا بد أن تكون قراءة القرآن مرتبطة ومقترنة بقراءة كتاب الله المنشور وهو الكون بمختلف ابعاده و مكوناته، إذ أن هذا الكون هو مجال تطبيق الهداية البشرية ومحور الاستخلاف والتعمير الذي يهدف إليه الهدى القرآني. فكل قراءة للوحي منفصلة عن العلوم الكونية ستؤدي إلى الانفصام بين الدنيا والآخرة وبالتالي إلى تعطيل مهمة الإنسان في الكون فتكون الهداية المحصلة منغلقة عن الذات، أنانية، مخالفة للهداية القرآنية المنفتحة التي تعطي ثمارها الطيبة للإنسانية جمعاء.
يقوم القرآن الكريم إذا تلوناه حق تلاوته بإعادة تشكيل وعي الإنسان وتحويله من مجرد كائن يعيش على هامش الكون إلى الخليفة المسؤول عن هذا الكون، إذن فبتحقيق الهداية الفردية، نكون بنينا الإنسان الصالح المهتدي بآيات الله والمسؤول على الكون وهو الإنسان الذي يستحق لقب ومهمة الاستخلاف. هذا الإنسان يمثل اللبنة الأولى من لبنات الحضارة. إذ أن الحضارة هي نتاج تفاعل الإنسان مع الكون ومع الزمن ، والقرآن في جل آياته يتحدث عن هذا التفاعل: عن كيفيته ، ومنهجه ، مؤسسا لرؤية قائمة على الوسطية والتوازن بين الحرية والمسؤولية بين الخصوصية الفردية و الروح الجماعية ، بين الروحانية والمادية. هذه الرؤية إذا تدبرها وعمل بها المسلمون فسوف تكون نتيجتها حضارة عالمية تتجاوز محدودية وقصور رؤية الحضارة الغربية المعاصرة والتي تؤدي إلى كوارث على مستوى الفرد والمجتمع والبيئة.
تقوم الحضارة بالإضافة إلى الرؤية على مجموعة من الدوافع والأسس.
على مستوى الدوافع يمثل وجود التحدي دافعا أساسية لقيام الحضارات، إذ أن قيام الحضارات تقوم وتصعد استجابة لتحديات محددة سواء كانت هذه التحديات مادية او اجتماعية.
ولكي يكون التحدي محفزا إلى نهوض حضاري يجب أن يكون هذا التحدي معتدلا، أي أن لا يكون شديد الصعوبة ولا شديد السهولة، فإذا كان شديد العسر أدى إلى الإحباط وإذا كان شديد السهولة أدى إلى التراخي والجمود. التحديات في القرآن كثيرة : أهمها على المستوى الفردي الحصول على رضا الله ودخول الجنة وعلى السبيل الجماعي الاستخلاف في الكون وتحقيق الأمة الشهيدة على الإنسانية…أما على المستوى الجماعي فإن القرآن يبين لنا من خلال تجارب الانبياء أن الفساد مهما بلغ مداه فإن الإصلاح يبقى ممكنا ويدعو الإنسان إلى أن يسعى إليه إلى آخر رمق في حياته : “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل” ويبين لنا في المقابل أن الإصلاح مهما بلغ مداه فإن الفساد يتربص بنا إذا وقع التراخي والخمول.
من ناحية أخرى وعلى مستوى الأسس الحضارية يبين القرآن السنن التي وضعها الله في هذا الكون وهي قوانين مطردة تحكم نظام الكون أخبرنا بها الله في كتابه لترشدنا حول منهجية الاستخلاف العامة، وتركنا أحرارا في اختيار الوسائل والطرق.
من هذه السنن قانون التغيير “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” وقانون التدافع : ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين” وقانون التداول : “وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين“.
إن البحث عن هذه السنن في كتاب الله المخلوق والمنشور ضرورة قرآنية ودافع لتحقيق النهوض الحضاري، فهي تبين قوانين التغيير والتطور وعوامل صناعة الحضارات وأفولها: “فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا”.