جاء في كتاب “السيرة النبوية أهميتها.. أقسامها ومقاصدها” للدكتور محمد بن صامل السلمي الأستاذ المشارك بقسم التاريخ والحضارة الإسلامية، جامعة أم القرى، بيان أوجه أهمية السيرة النبوية لحياة المسلمين وحاجتهم، حيث يعد الاعتناء بهدي النبي ﷺ طريقا لبناء الجيل الذي يسعى في صناعة الحياة السعيدة التي يغمرها الوازع الإيماني وسلامة المبادئ والقيم، ويحقق من خلالها العودة بالأمة إلى سابق عهدها وحيويتها كما كان عليه سلف الأمة الصالح.
أما السيرة النبوية فهي دراسة حياة النَّبيِّ ﷺ وأخباره وأخبار أصحابه على الجملة، وبيان أخلاقه وصفاته وخصائصه ودلائل نبوَّته وأحوال عصره؛ فالسِّيرةُ النَّبويَّة تشمل كلَّ ما يتعلَّقُ بالنَّبيِّ ﷺ ، وأحوال عصره، وأخبار أصحابه؛ لأنَّ السِّيرةَ هي: فعله ﷺ وإقرارُه لفعل أصحابه رضي الله عنهم.
ولما كانت دراسة السيرة النبوية لا يعادلها دراسة أي رواية عالم أو شخص عالمي، فإنه “يجب أن تكون الدِّراسة للسِّيرة النَّبويَّة ذاتَ أهداف واضحة ومرتبطة بمقاصد الشَّريعة وأحوال المتعبِّدين، وباحثة عن الهدى والصِّراط المستقيم، ومؤدِّية إلى مرضاة ربِّ العالمين؛ لأنَّ السِّيرةَ مصدرٌ من مصادر التَّشريع ومنهجٌ لحياة كلِّ مسلم، ولابدَّ أن يدرك القارئُ للسِّيرة النَّبويَّة أهميَّتَها التَّربويَّةَ والتَّشريعيةَ والاجتماعية والإدارية والسياسية؛ لأنها تطبيقٌ عمليٌّ لنصوص الوحي في كافَّة مناحي الحياة الإنسانية”.
يقولُ عليُّ بن الحسين زين العابدين([1]): «كنَّا نعلِّم مغازي رسول الله ﷺ كما نعلِّم السُّورةَ من القرآن»([2]). وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص يحفِّظ أبناءه مغازي رسول الله ﷺ ويعدّها عليهم، ويقول: «هذه مآثرُ آبائكم فلا تضيِّعوا ذكرَها»([3]).
يقول الدكتور السلمي: وبهذا المنهج العالي كان جيلُ الصَّحابة- رضوان الله عليهم- ثمَّ التَّابعين أرقى أجيال الأمَّة وأقواها علمًا وعملاً وأثرًا في واقع الحياة وبناء الحضارة؛ فكانوا قادةً وسادةً معتزِّين بمنهجهم مؤثِّرين في غيرهم غيرَ متأثِّرين؛ فقد حقَّقت السِّيرةُ النَّبويَّةُ للجيل الأوَّل السِّيادة والرِّيادة في كلِّ الميادين الخيِّرة النَّافعة، ونشروا العدل والأمن والإسلام في كلِّ بلد وصلوا إليه وانتشر فيه نور الحقّ.
والأمَّةُ الإسلاميَّةُ اليومَ أحوجُ ما تكون إلى هذا المنهج في دراسة سيرة نبيِّها ﷺ والاعتزاز بها؛ لترتفع إلى مكان الصَّدارة والرِّيادة، وتحصل لها القدرة والتَّمكُّن من القيادة الرَّاشدة للمجتمعات الإنسانيَّة، وتتحمَّل المسؤوليَّةَ تجاه هداية البشريَّة وردّها إلى الصِّراط المستقيم، وتكون خير أمَّة أخرجت للناس في قضاء الله وحكمه، وفي واقع حياتها؛ قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 143]، وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
ومع أهمية الاقتداء بكلِّ أفعال الرَّسول ﷺ وأثرها في صياغة الشَّخصيَّة المسلمة وبنائها على طريقة التَّربية النَّبوية إلَّا أنَّه من المعلوم أنَّ للدِّين والشَّريعة الإسلاميَّة مقاصدَ تتمثَّل في تحقيق ضروريَّات لا تقوم الحياة إلا بها، وحاجيَّات لا تحمى وتُقام الضَّروريَّاتُ إلَّا بتوفيرها، وكماليَّات وتحسينيَّات تعدُّ أمورًا جماليَّةً انعدامُها لا يؤثِّر كثيرًا في قيام الحياة الصَّحيحة المستقيمة.
والمشكلةُ التي تعاني منها الأمَّةُ اليومَ هي التَّخاذلُ والتَّفريطُ في الاقتداء بالرَّسول ﷺ في الضَّروريَّات والمقاصد الكبرى للدِّين، وإذا وجد اقتداءٌ فهو في التَّحسينيَّات التي لا تكلف جهدًا وتضحيةً وبلاءً؛ فهذه قضيةٌ بحاجة إلى إدراك ومعالجة.
وأضاف الدكتور محمد السلمي على ذلك أن أهميَّةُ السِّيرة النَّبويَّة تظهر في التَّكامل والشُّمول في فهم النُّصوص الشَّرعيَّة، وضرورة الاقتداء والتَّأَسِّي بالرَّسول ﷺ في كلِّ جوانب الحياة، والتَّعامُل مع نصوصها الصَّحيحة الثَّابتة بكلِّ تقدير واحترام؛ وقد يَسَّرَ اللهُ لهذه السِّيرة مَن يقوم على حفظها والعناية بأدقِّ تفاصيلها؛ حتَّى كأنَّك تنظر إلى صاحبها وأحواله رأيَ العين، والتاريخ شاهدٌ على أنَّه ليس في الدُّنيا أحدٌ يصحُّ أن تكون سيرتُه من الوضوح والكمال والصِّدق غير سيرة محمد ﷺ وحياته.
يقول الأستاذ سليمان النَّدويّ: «إنَّ حياةَ العظيم الذي يجدر بالناس أن يتَّخذوا منها قدوةً لهم في الحياة ينبغي أن تتوفَّرَ فيها أربعُ خصال:
- أن تكون تاريخيَّةً؛ أي أنَّ التَّاريخَ الصَّحيحَ الممحِّصَ يصدِّقُها ويشهد لها.
- أن تكون جامعةً؛ أي محيطةً بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها.
- أن تكون كاملةً؛ أي تكون متسلسلةً لا ينقص فيها شيء من حلقات الحياة لذلك العظيم.
- أن تكون عمليَّةً؛ أي أنَّ الدَّعوةَ إلى الفضائل والمبادئ والواجبات بعمل الدَّاعي وأخلاقه لا بمجرَّد قوله، وأن يكون كلُّ ما دعا إليه بلسانه قد حقَّقَه بسيرته وعمل به في حياته الشَّخصيَّة والعائليَّة والاجتماعيَّة؛ وبهذا تكون أعمالُه مثلاً عليًّا للنَّاس يتأسّون بها»([4]).
وسيرةُ النَّبيِ ﷺ ليست مجرَّدَ حوادث تاريخيَّة تؤخَذُ منها العبر والعظات فحسب؛ وإنَّما هي فوق هذا كلِّه؛ إنَّها تجسيدٌ عمليٌّ للوحي الذي يقتدى به، وهي منهج سليم واضح يهتدى بهداه، وصراط مستقيم يُسلك ويُتَّبع؛ لأنَّها منهجٌ معياريٌّ غيرُ خاضع لحدود الزَّمان والمكان؛ بل تقاس إليه الأعمال والمواقف، وتعاير عليه الاجتهادات والآراء، وتوزن بميزانه الحقِّ.
يقول الدكتور فاروق حمادة: «السيرة النَّبوية تجسيدٌ حيٌّ لتعاليم الإسلام كما أرادها الله تعالى أن تُطبَّقَ في عالم الواقع؛ فتعاليمُ الإسلام لم تنزل لتُحْصَرَ بين جدران المساجد وداخل أروقة بيوت العلم الشَّرعيِّ وكليَّاته؛ بل تنزَّلت من الحكيم العليم لتكون سلوكًا إنسانيًّا ومنهجًا حياتيًّا يعيشها الفردُ المسلم في نفسه وشخصه، ويدركها في واقعه ومجتمعه، ويشبُّ عليها؛ فتصبحَ جزءًا لا يتجزَّأُ من كيانه، يتصرَّف على هديها في كلِّ صغيرة وكبيرة، وفي كلِّ موقف وشأن؛ فالمبدأُ النَّظَريُّ يُرى ماثلاً قائمًا في شخص صاحبه؛ وهذا ما نجده في السِّيرة النَّبويَّة؛ حيث كان رسول الله ﷺ يجسِّم تعاليمَ الإسلام كما أرادها اللهُ تعالى أن تُطَبَّقَ في عالم الأحياء والبشر.
إنَّ قراءةَ السِّيرة النَّبويَّة بحاجة إلى نظام معرفيٍّ واضح المعالم مستمَدٍّ من القيم والمعايير التي جسَّدتها السِّيرةُ في واقع الناس، ومنهج القراءة يجب أن يراعي الأمور الآتية:
- هداية الوحي والاستمداد منه.
- خلود الرسالة وخاتمتها للأديان الإلهية.
- مقاصد الدين.
- عصمة النبوة وحفظ للرسول ﷺ من الخطأ في البلاغ عن الله.
- سلامة النقل.
- دراية العقل.
([1]) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان مع والده الحسين يوم قتل بكربلاء، شابًا، مريضًا، ولذلك لم يقتل، له ترجمة حافلة في الطبقات الكبرى 5/ 211، وقال: كان ثقةً مأمونًا كثيرَ الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا، مات بالمدينة سنة 94ﻫ ودفن بالبقيع.
([2]) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 424.
([3]) الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 195.
([4]) سليمان الندوي، الرسالة المحمدية ص 68.