طارق مصطفى حميدة

 

يلاحظ أن السور التي سميت بالأسماء التي تدل على البشر هي الأكثر عدداً مقارنة بالسور التي تسمت بأسماء المخلوقات العاقلة الأخرى كالملائكة والجن، وهو ما يظهر في أسماء سور: ( آل عمران، والنساء، ويونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، ومريم، والأنبياء، والمؤمنون، والروم، ولقمان، والأحزاب، وسبأ، ومحمد، والمجادلة، والمنافقون، والممتحنة، والمدثر، والمزمل، ونوح، والإنسان، وعبس، وقريش، والكافرون، والناس)، فالناس هم الخلفاء في الأرض، ومنهم كان الرسل، وعليهم أنزلت الكتب السابقة، وهذا القرآن.

ولم يحظ الجن إلا بسورة من بين مائة وأربع عشرة سورة، وببضع عشرات من الآيات في القرآن كله من بين أكثر من ستة آلاف آية، مع أنهم قسيمو الإنس في هذه الأرض، من المخلوقات المكلفة – فيما نعلم- بينما تزخر الأساطير والمعتقدات الشعبية، القديمة والمعاصرة عند كثير من الأوساط بالحديث عن الجن حتى ليتصورونهم يتحكمون في الكون ومجرياته، أو أنهم لَيلهمون الشعراء، ويحيطون بالإنس ويتسلطون عليهم ويتلبسونهم بحيث لا يستطيعون منهم فكاكاً.

ومقصدي من هذا الملحظ أن القرآن لو كان من صناعة البشر لانعكست فيه ثقافتهم ومعتقداتهم وأساطيرهم، والجن مكون أساسي منها، لكن لما كان القرآن رباني المصدر فقد جاءت له سورة واحدة، وأعطت الجن حجمهم الحقيقي، إذ مركز الأرض وخلافتها هم الإنس، والجن لهم تبع وليس بمُكنة أحد الاتصال بهم بغير إذن الله، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، مع كونه مبعوثاً للجن أيضاً، لم يتصل بالجن مباشرة ولم يشعر بما كان من شأنهم لولا أن أخبره ربه في هذه السورة: ﴿ قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به﴾، وكذلك في سورة الأحقاف: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وحتى لو وجدت نصوص من السنة النبوية تتحدث عن نوع تواصل بين الرسول وبعض الجن، فإن حديث سورة الجن عن الجن وطريقة تواصل الرسول بهم يؤكد كونهم من عالم الغيب الخفي عن حواسنا، ولا سبيل لمعرفة شيء عنهم خارج إطار الوحي: ( قل أوحي ﴾.

والملاحظة الثانية أن السورة التي تسمت باسم الجن جاءت على لسان فريق من مؤمني الجن، أي الذين التزموا مراد الله من خالقهم وقبلوا سيادة بني آدم على الأرض، ووافقوا على اتباع الرسل من بني البشر، ﴿ فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به﴾، ولم يغررهم أن واحداً منهم يقول على الله شططاً أن يتبعوه لأنه ينتمي إلى جماعتهم، بل وصفوه بالسفيه، وقد يصدق هذا الوصف على إبليس السفيه الأول من الجن إن صح التعبير، كما قد يصدق على غيره من زعماء الضلال ودعاته في زمانهم، وليسوا على غرار إبليس الذي أبى واستكبر وتعامل (بعنصرية): ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾.. فالتصور المطلوب تكبيره عند المؤمن هو التصور الإيجابي عن الجن، مع معرفة أن فيهم المؤمنين والقاسطين، وأن إبليس منهم، وبالتالي ألا يؤخذوا بجريرته.

وحظي الملائكة على شرف مكانتهم ببضع سور هي سورة الملائكة واسمها التوقيفي الآخر هو سورة فاطر، بالإضافة إلى سور الصافات والذاريات والمرسلات التي يترجح أن المقصود بها هم الملائكة، وأخيراً سورة النازعات، وكذا سورة المعارج التي تعرج الملائكة والروح فيها.

الختم بسورة الناس

تكمن أهمية الخاتمة في أي عمل فكري أو أدبي أو فني، أنها تمثل التلخيص المركّز للنص كله، وهي آخر ما يعلق في الذهن ويرسخ في العقل والقلب، من خلال حاستي السمع أو البصر أو كلتيهما، وذاك ما نلاحظه في المشهد الأخير من القصص والروايات والأعمال الدرامية، وكذا البيت الأخير في القصيدة، أو قافية كل بيت سواء في ذلك الكلمة أو الحرف، والأمر ذاته – ولله المثل الأعلى- ينطبق على آي القرآن وسوره، بمعنى أهمية ملاحظة الآية أو الآيات التي تشكل ختام السورة، وكذلك فواصل الآيات، والفاصلة هي الكلمة الأخيرة في كل آية.

وفي حالة سورة الناس فإنها أولاً السورة الأخيرة الخاتمة للقرآن الكريم، والكلمة الأخيرة في القرآن هي الكلمة الأخيرة في السورة وهي كلمة ﴿ والناس﴾، والسورة مكونة من ست آيات خمس منها تنتهي بفاصلة الناس، لا بل إن فاصلة الآية المتبقية ﴿الخناس﴾ تتضمن صوتياً كلمة ( ناس).

فالسورة من جهة كأنها تلخيص للقرآن جميعه وآخر ما ينبغي أن يعلق في الذهن ويرسخ في القلب، والختم بسورة الناس لتلخيص الهدف وتعزيزه وتأكيد أن الهدف الأول من هذا الكتاب هو الناس، والخلافة خلافتهم والمعركة التي يخوضونها بهذا القرآن هي معركتهم مع الشر وأهله، وأنه لا قبل لهم بذلك إلا بعون الله واللجوء إليه، وإذا كان الموسوس الأول من الجن، فإن الموسوس الأهم هو الإنسي الذي قبل لنفسه أن يكون شيطاناً، والختم به يشعر بضرورة الاهتمام بشأنه والالتفات إليه، وهذا يعني إلى حد كبير أن يلتفت أهل القرآن لأعداء الدين من البشر الظاهرين عنايتهم بإبليس وشياطين الجن بل أكثر، وقد يعزز هذا المعنى كثرة الحديث عن أقوام الأنبياء، كقوم نوح، وعاد وثمود، وقوم شعيب ولوط، وآل فرعون، أكثر مما جاء عن إبليس وشياطين الجن.

وإذا كانت النهاية في أي كتاب أو قصة تعني غالبا الخلود إلى الراحة، فإن الاستعاذة في سورة الناس، وهي أشبه بما يسمونه النهايات المفتوحة بل أعظم تأثيراً منها، تؤكد أن لامجال للركون والخلود إلى الراحة بل التحفز والحذر، فلا غفلة ولا نوم، والاستعاذة من شر الوسواس الخناس هكذا بصيغة المبالغة، فالإنسان في معركة مع الشر وأهله مفروضة عليه، ولا يسعه القعود ولا التغافل عمن يريد إضلاله.

ولئن كانت سورة فاتحة الكتاب قد عرّفتنا أن أعظم نعمة هي الهداية إلى الصراط المستقيم، ﴿ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم﴾ فإن سورة الناس الخاتمة للكتاب تعرفنا أن أكبر ضرر وأعظم خطر هو الضلال استجابة للوسوسة وهو شر الوسواس الخناس، الذي تعهد أن يقعد لبني آدم صراط الله المستقيم ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.

والطريف، أننا إذا ربطنا بين سورتي الجن والناس، فإن مسلمي الجن حين يقرأون سورة الناس، وأن الذي يستعيذون به هو رب الناس وإله الناس وملك الناس؛ فإنهم يقرون بمركزية إخوانهم من الإنس في الأرض وأنهم الخلفاء فيها، وأنهم لأنبيائهم تبع.

المؤمنون .. المنافقون … الكافرون

الناس بالنسبة لهذا الدين كتابه ونبيه على أقسام: المؤمنون، والكافرون، والمنافقون، وقد وردت ثلاث سور بأسماء المجموعات الثلاث: حيث كانت سورة المؤمنون أولها – ورقمها 23– وأطولها أي أكثرها عدد آي- 118 آية، ثم سورة المنافقون وهي السورة رقم 63، وعدد آياتها 11 آية، وأخيراً سورة الكافرون، وهي السورة رقم 109 في أواخر المصحف، وعدد آياتها 6 آيات.

جاءت سورة المؤمنون سابقة للسورتين وقد أخذت سورة المؤمنون الحجم الأكبر والعدد الأكبر لأن المؤمنين هم الأهم ولأكرم عند ربهم وهم المهتدون الذين كتب الله لهم الفلاح.

بينما كان حجم سورتي المنافقون والكافرون يتناغم مع صغارهم وهوانهم على الله، وذاك خلافاً لما يفعله كثير من الروائيين ومنتجي الأعمال الدرامية عندما يتحدثون عن الشر والانحراف فإنهم يعطون مساحة كبيرة بل المساحة الأكبر للشر وأهله، بحيث يوقعون في عقول المتلقين وقلوبهم أن الشر هو الأقوى وأنه لا غالب له، وأنه لا قبل للخير وأهله بهم.

كذلك فإن الحديث عن المنافقين قد جاء في مقام افتضاح أمرهم عند رب العالمين، وكشفهم لرسوله وللمؤمنين، وبالتالي فلا خطر منهم بالرغم من شدة عداوتهم.
الأمر ذاته بالنسبة لسورة الكافرون، فقد جاءت السورة في إطار أمر النبي ضلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالبراءة من عبادتهم تهوينا من شأنهم وشأن معبوداتهم وشأن دينهم، واعتزازاً بعبادتهم لله وحده.