اختيار التخصص الجامعيّ مِن أبرز الاختيارات حساسية في حياتنا ، وأكثرها تأثيراً على مستقبلنا ، بالرغم من أنّ هذا الاختيار الهام يُطلب في مرحلة يفتقر فيها المرء إلى المعرفة والخبرة الكافية لاتخاذ الاختيار المناسب ، وعادة تكون هذه الاختيارات مبنية على التأثر البيئي والميول العاطفي الأسري ، والانبهار بالألقاب الأكاديمية المتداولة اجتماعياً في مقام المدح والأفضلية.

وعند الانخراط في الحياة الجامعية يجد الطالب أنّ القرار مرتبط بمدى معرفته بنفسه ، وقدراته الذهنية والنفسية ، وأنّ الرغبة حافز رئيسي للاستمرار في التخصص والإبداع فيه وهذا في كافّة التخصصات ، إلّا أنّه مطلوب وزيادة في تخصص الشريعة. وذاك لخصوصية العلوم التي تُدرّس فيه ، فالأمة لا تعاني نقصاً  في أعداد الملتحين ولا في أعداد المحجبات ، لكن هناك خلل في التركيز النوعي والكيفي لمجتمع طلبة الشريعة ، فكليات الشريعة تعاني من فئة من طلبتها تتبنى مفاهيم اجتماعية فاسدة عن الكلية ، ارتبطت بدنو المعدل ، وسهولة مواد التخصصات ، وأنّه تخصص يسر موصل لشهادة جامعية بأقلّ جهد ، متجاهلين أنّ أهل العلم الشرعي قدوات بأفعالهم ومحط نقد القول بالفعل.

 فعلمٌ منزوع الخلق فتيلٌ يحرق صورة طالب الشريعة في أذهان العامّة ،من خلال انسلاخ الالتزام الديني عن الالتزام الأخلاقي، مما أوقع عديد من الناس في زلل التعميم وبغض الدين ، يُطلب من طالب الشريعة أن يكونَ سويّاً يحقق التوازن ما بين باطنه وظاهره ، يتعهّد أنّه في حالة عبادة مستمرة منذ لحظة خروجه من منزله قاصداً الجامعة ، فإيمانه حقيقة ليس وهماً مرتبطاً بقاعات الشريعة لا يعاني الانفصام ولا مختلّ القلب ، إذ انتسابه إلى الكلية رغبة وفهماً وتقرّباً إلى الله تعالى. وهناك فئة من طلبة الشريعة غفلت عن أهمية الانتساب إلى كلية يقع على عاتقها مسؤولية إصلاح ونصح المجتمع الجامعي ، فزهدت في ذلك ، متناسية أنّ مقام العلم الشرعي العمل والتطبيق وإنّهم عن ذلك لمسؤولون.

   هناك مأزق حقيقي يعاني منه بعضُ خريجي الشريعة ممن لا يتقنون تلاوة القرآن ، ويعتلون المنابر فيتلبّد حسّ المستمع وتنغلق مسامات التأثر لديه ، ووعاظ يفتقرون للبناء الثقافي والمعرفي ، ، وآخرون يتبرّأ العلم الشرعي من مظهرهم وزيّهم ، خلعوا الشريعة في أشكالهم وصورهم.

ولا يظن قارئ بأنّ المنتظر من طالب الشريعة أن يتخرّج عالماً في أربع سنوات، لكن أن يخرج داعية قادراً على مواجهة تحديات المجتمع من حوله ، مستعداً للالتزام بدوره تجاه أمته ، صاحب تصور ناضج يمتلك مهارة التحليل ، شفيق بالناس قريب من نبضهم ، وهذا يتطلب من أساتذة الشريعة تبني منهجيات التعليم التي تَعنى بفرز الأفكار بعيداً عن منهجيات التلقين وتعطيل الإبداع العقلي ، وإطلاق العنان للحريات المنضبطة بالفهم السليم ، حتى لا يُخرّجوا طلبة بشخصيات مهزوزة ، فقيرة الحجة ، تردد : ” هكذا أخذنا في الشريعة ” ، أو شخصيات تبعية لم تفهم من الفقه إلا رأي مدرس المادة ، وضاق العلم عندها إلّا في كتاب مؤلفه المدرس للمادة.

ومن أهم ما يُطلب من أساتذة الشريعة أن يزرعوا في طلبتهم هدفاً راقياً ينفع الناس لنصرة الدين ، يُراعَى في الهدف الطموح الإسلامي الخاص بالفرد والعام بالأمة ، ينشدون في طلبتهم علماً شرعياً يحاكي الواقع الذي نعيش يتحدث بلغة هذا الزمن ، علماً يحترق لأوجاع الأمة ، فكم من طالب شريعة لا يعرف لماذا التحق بالكلية ؟ وأفق تخرّجه محصور في مُسمّى أستاذ دين يتلو نشرة الدرس منتظراً راتب آخر الشهر ، لا يضع لراتب الآخرة في وعيه مقاماً أو حسباناً.

كلما سرتُ في أروقة كلية الشريعة في الجامعة الأردنية يحضر في ذهني مُباشرة د.عبدالله عزّام ، أتأمل حولي هل كلية الشريعة مَن منحته كل هذا العزم ، أم هو الذي منحها من اسمه نصيباً ؟