تعتبر مؤسسة القضاء من أهم مؤسسات المجتمع الإسلامي قديماً وحديثاً، ويأخذ القضاء أهميته من كونه هو المؤسسة الشرعية التي يتم من خلالها “الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع بالأحكام الشرعية المتلقَّاة من الكتاب والسنة”، حسب تعبير ابن خلدون في كتابه “ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر“.ولا شك أن مهنة القضاء من أصعب المهن في الإسلام وأكثرها خصومات، وتزداد صعوبات وخصومات هذه المهنة عندما يتعلق الأمر بالبتّ في حق من الحقوق بين متفرقين في الأمكنة، حيث يضطر أحد القضاة إلى مخاطبة قاضٍ آخر في مكان مختلف عن المكان الذي يوجد فيه القاضي الأول، فيصبح الأمر الجامع القاضيَّيْن هو الحرص على البتّ في النزاع بأحسن الطرق الموافق للشريعة الإسلامية دون ضجيج.ومن المعلوم أن مخاطبات القضاة من الموضوعات القديمة الجديدة، لكن يبدو أن المؤلفات الخاصة لهذا الموضوع المهم قليلة جداً، ولعل من أحدثها كتاب “مخاطبات القضاة في الفقه الإسلامي” للعلامة الشنقيطي الشيخ محمد الحسن ولد الدَّدَو، الذي استعرض من خلاله جوانب مهمة من تاريخ المخاطبات القضائية التي لا تخلو منها مؤسسات القضاء قديماً وحديثاً، نظراً لتجدّد قضايا النزاع والخصومات وتعدّد الأماكن وتباعدها، وسنجعل هذا الكتاب عمدتنا في هذه المقالة، لنكشف عن مفهوم مخاطبات القضاة ومشروعيتها ومراتبها وأقسامها.
مفهوم مخاطبات القضاة
المخاطبات جمع مخاطبة، وهي في اللغة مصدر خاطبه يخاطبه خطاباً ومخاطبة إذا وجَّه إليه كلاماً أو راجعه فيه، جاء في لسان العرب أن “الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام”، وقد فسّر البيضاوي قول الله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} في تفسيره “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” بقوله: “لا تراجعني فيهم، ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم”.
ومن هنا، فإن المقصود بمخاطبات القضاة تخاطبهم فيما بينهم فيما يتعلق بعملهم من الأقضية والدعاوى والشهادات وغير ذلك من مسائل الإثبات، ويبدو أن الفقهاء اختلفوا في تسمية هذا الباب في مؤسسة القضاء ، فمنهم من سماه “كتاب القاضي إلى القاضي”، ومنهم من سماه “الكتاب الحكمي”، ومنهم من سماه “الإنهاء” (الإبلاغ)، ومنهم من سماه “الخطاب” أو “المخاطبة”.
ولمخاطبات القضاة مراتب وأقسام، حيث ينقسم الخطاب إلى مسموع ومرئي، وينقسم كل واحد من هذين القسمين إلى مباشر وغير مباشر، فالمباشر هو ما لم يستخدم فيه الأجهزة في توجيه الخطاب وتلقيه، وغير المباشر هو ما كان بواسطة الأجهزة المرسلة والمستقبلة، وإذا نظرنا إلى مراتب هذه الأقسام سنجد أن المرئي أقوى وأغلب في مخاطبات القضاة بخلاف الاستعمال العام، وأن المباشر مقدم على غير المباشر، وأن الفوري أقوى من غيره.
مشروعية مخاطبات القضاة
وبعد تبيان مفهوم مخاطبات القضاة لغة واصطلاحاً، لا بد من الكشف عن أصل مشروعيتها في الفقه الإسلامي، والحقيقة أننا لا نحتاج أن نبذل جهداً كبيراً لكي نكتشف أصل مشروعية مخاطبات القضاة، فهناك أدلة نقلية وعقلية تؤكد مشروعيتها بشكل واضح، ففي القرآن الكريم نجد قول الله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}، أما من السنة المطهرة فمن الأدلة كتاب الرسول ﷺ إلى الضحاك بن سفيان رضي الله عنه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، ونحن هنا في غنى عن القول إن الرسول هو القاضي الأعلى والضحاك قاضٍ من قضاته.
ورغم كل ما سبق قد يتساءل القارئ عن الحكمة التي شرعت من أجلها مخاطبات القضاة، والجواب على ذلك أن الحكمة منها تتمثل في حاجة الناس إلى إقامة العدل بينهم واستيفاء الحقوق، ففي بعض الأحيان تكون الحقوق بين متفرقين في الأمكنة، بالتالي لا بد من التعاون بين القضاة في المكانين المختلفين، وهذا التعاون يحصل من خلال المخاطبات والمراسلات بين القضاة، ولهذا فإن المخاطبات بين القضاة مشروعة بالكتاب وبغير الكتاب، كما أنها مشروعية بالأجهزة التقنية الحديثة المتعددة.
ويبدو أن هناك صوراً عديدة اتفق الفقهاء على أن القاضي يكتب فيها للقاضي، استعرض المؤلف منها ثلاث عشرة صورة، منها على سبيل المثال لا الحصر: أن يدعي شخص على غائب حقاً مالياً فيسمع القاضي بينته ويكتب إلى قاضي البلد الذي فيه المدعى عليه، وأن ينتقل المطلوب في البلد الذي كتب القاضي إلى قاضيه قبل وصول الكتاب فيطلب الطالب كتاباً آخر إلى القاضي الذي انتقل إليه المطلوب.
مخاطبات القضاة بالكتاب
يمكن تقسيم مخاطبات القضاة إلى قسمين كبيرين، الأول المخاطبات بالكتاب والثاني المخاطبات بغير الكتاب، وإذا بدأنا الحديث بالقسم الأول (المخاطبات بالكتاب) سنجد أن صور كتاب القاضي إلى القاضي تنقسم إلى ثلاثة أنواع: باعتبار مضمونه، وباعتباره شكله، وباعتبار مذهبي القاضيين، وتدخل تحت هذه الأنواع صور عدة يصعب حصرها، وهناك مقولات تؤكد ضرورة تنفيذ القاضي لمضمون المخاطبة التي جاءته من غيره، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في عدة كتب منها “أصول الفتيا” و”فصول الأحكام”.
ورغم مشروعية وضرورة المخاطبات بين القضاة كما أشرنا آنفاً، إلا أن القاضي لا يقبل كل كتاب يصله، بل هناك شروط عديدة لا بد من توفرها من أجل قبول القاضي للكتاب الصادر عن قاضٍ آخر، وقد حصر العلامة محمد الحسن ولد الدَّدَو تلك الشروط في ثمانية عشر شرطاً، منها: أن يصدره الكاتب من محل ولايته، وأن يصل إلى المكتوب إليه في محل ولايته، وأن يشهد الكاتب على نفسه بمضمون كتابه بنية تؤدي شهادتها عند المكتوب إليه، وأن يقرأ القاضي الكتاب على الشاهدين، وأن يكون مختوماً ومعنوناً ومؤرخاً.
ثم إن هناك أيضاً مجالات محددة هي التي يُقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي، وهي: الحقوق المالية أو الراجعة إلى المال كالدين والقرض والإجارة والغصب، والأعيان التي لا تتعين دون الإشارة إليها في الدعوى والشهادة والحكم كالمنقولات من الحيوان واللباس والمتاع والسلع، هذا بالإضافة إلى الحقوق غير المالية التي تثبت مع الشبهة كالنكاح والطلاق والخلع والتوكيل والوصية، ثم الحدود والقصاص التي اختلف العلماء في قبول كتاب القاضي إلى القاضي فيها على ثلاثة أٌقوال: الأول أنه لا يقبل مطلقاً، والثاني أنه يقبل مطلقاً، والثالث أنه يقبل في القصاص وحدّ القذف فقط.
أما تصرّف القاضي المكتوب إليه فيما وصله فيبدو أنه لا يخلو من احتمالين، إما أن يكون المكتوب وصل إلى القاضي وعلم صحة صدوره من الكاتب واقتنع بالمضمون فيبني على عمل القاضي الأول فوراً، وإما أن يكون القاضي علم صحة صدور الكتاب من الكاتب واقتنع بالمضمون ولكنه لا يستطيع العمل بهذا الكتاب فوراً، نظراً لأن الكتاب قد يتضمن الحكم على غائب أو هارب فيحتاج القاضي إلى وقت معين وإجراءات محددة قد تطول وقد تقصر انطلاقاً من نوع المحكوم عليه والإجراءات التي يحتاجها تنفيذ الحكم الوارد في الكتاب الصادر عن القاضي الأول.
مخاطبات القضاة بغير الكتاب
أما النوع الثاني من مخاطبات القضاة فهو المخاطبات بغير الكتاب، ولهذا النوع طرق عديدة لعل من أهمها: مشافهة القاضي للقاضي، ومخاطبة القاضي للقاضي بوساطة الرسل، وتكليم القاضي للقاضي بوسائل الاتصال الحديثة، والمقصود بمشافهة القاضي للقاضي تكليمه له سواء فهم عنه مباشرة أو بواسطة الترجمان، ولمشافهة القاضي للقاضي أربع صور: أن يكونا في موضع لا ولاية لواحدٍ منهما عليه، وأن يكونا في موضع لهما ولاية عليه بالاشتراك، وأن يكون كل واحد منهما في ولايته، وأن يكونا في موضع ولاية أحدهما، وقد اختلف الفقهاء حول تكييف هذه الصور الأربع، وكان المؤلف حريصاً على نقاش الأدلة ومحاولة الترجيح في النهاية.
ويُقصد بمخاطبة القاضي للقاضي بوساطة الرسل أن يرسل القاضي إلى القاضي عدْلَيْن ويشهدهما على مثل ما يكون في كتابه إليه، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين، فذهب الحنفية إلى الرفض، في حين ذهب الجمهور إلى القبول. أما تكليم القاضي للقاضي بوسائل الاتصال الحديثة، فإنه يتم من خلال وسائل عديدة، مثل: تكليمه بالهاتف، وتكليمه باللاسلكي، وتكليمه بالشريط المسجل للفيديو أو الكاسيت، وتكليمه بوسائل الإعلام المسموعة كالراديو والتليفزيون.
وقد ختم الشيخ محمد الحسن ولد الدَّدَو حديثه في هذا الكتاب المهم باستعراض مسائل متفرقة تتعلق بمخاطبات القضاة، مثل: مخاطبات القضاة متفاوتي الدرجات، وكتاب القاضي إلى غير القاضي وعكسه الذي قسم الماوردي رحمه الله إلى ثلاثة أٌقسام: مكاتبة القاضي للأمير، ومكاتبة القاضي للشهود، ومكاتبة القاضي للمحكوم عليه، كما توقف الشيخ الدَّدَو مع مخاطبات قضاة الدَّجن ومخاطبات قضاة أهل البغي وأهل الأهواء، ومخاطبات قضاة الكفار، وبيّن الحكم الشرعي في هذه المسائل المتفرقة.