فقدت مصر والعالم العربي والإسلامي أمس الجمعة أحد أبرز المؤرخين والمفكرين المعروفين بالحكمة والفقه الدستوري، طارق البشري الذي رحل عن هذا العالم عن عمر ناهز 88 عاما، متأثرا بإصابته بفيروس كورونا، تاركا وراءه إرثا ثقافيا معتبرا موثقا في العديد من المؤلفات القيمة في التاريخ والقانون، حيث كان أحد أبرز المفكرين والقانونين المصريين المعاصرين في النصف قرن الأخير.

يعتبر طارق البشري أيضا أحد قادة الفكر العروبي والإسلامي. وهو مؤرخ ومشرع مصري، من أسرة علم وقضاء وأدب، شكلت فتاواه القانونية مرجعا للقضاة والباحثين في فهم النصوص واستنباط الأحكام. انشغل بالقانون والفكر الإسلامي، وقدم إنتاجه الفكري في الحياة العامة في سياق الكتابة التاريخية، حيث تم تصنيف إنتاجه الأول ضمن الرؤى اليسارية التي سعت إلى كتابة تاريخ مصري، انطلاقا من تعزيز فكرة الحركة الجماهيرية، غير أنه أجرى مراجعة فكرية واسعة بعد أقل من عشرين عاما، وظل على الرغم من ذلك يحظى بتقدير واسع بين المثقفين المصريين على اختلاف توجهاتهم .

المولد والنشأة والتكوين

ولد طارق عبد الفتاح سليم البشري يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1933 في حي الحلمية بمدينة القاهرة، لأسرة ترجع إلى محلة بشر بمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة شمال القاهرة.

عرف عن أسرته اشتغال رجالها بالعلم الديني والقانون، إذ تولى جده لأبيه سليم البشري، شيخ السادة المالكية بمصر- شياخة الأزهر، وكان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته سنة 1951، كما أن عمه عبد العزيز البشري أديب معروف.

بعد استكماله التعليم الثانوي التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وتعلم فيها على يد كبار فقهاء القانون والشريعة أمثال عبد الوهاب خلاّف وعلي الخفيف ومحمد أبو زهرة، وتخرج فيها سنة 1953.

بعد تخرجه من كلية الحقوق عُيِّن نائبًا أول لمجلس الدولة، ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع واستمر في هذا المنصب حتى تقاعده سنة 1998. وعُيّن يوم 14 فبراير/شباط 2011 رئيسا للجنة تعديل الدستور. كما ترأس لجنة التعديلات الدستورية في 2011.

تحوله إلى الفكر الإسلامي

في عام 1967، برز الفكر الإسلامي للفقيه القانوني طارق البشري من خلال سلسلة مقالات نشرت بعنوان “رحلة التجديد في التشريع الإسلامي”.

كما اعتبر على نطاق واسع واحدا من المفكرين الذين ساهموا في توضيح معالم طريق الفكر الإسلامي، ووفرت كتاباتهم كثيرا من الوقت في رسم الخرائط المعرفية، حسب تعبير الدكتورة نادية مصطفى، المستشارة الأكاديمية لمركز الحضارة للدراسات السياسية.

يصفه الدكتور سيف عبد الفتاح بأنه “الفقيه المجتهد” الذي “يمثل المرجعية للجماعة الوطنية وكافة التيارات برغم أنه يحسب على التيار الإسلامي، فهو يجمع في شخصه هوية الوطن ولغة المؤسسة الجامعة ولغة الإصلاح”.

ونوهت بعض وسائل الإعلام المصرية عام 2011 بما يكتبه البشري، وقالت صحيفة “الشروق” أنه “يجب أن يُقرأ بتأنٍّ وانتباه كبير ودون كسل”، وأشارت إلى أن “جميع التيارات الفكرية والسياسية في البلاد تحترمه، وأنه واحد ممن اتفق عليه الجميع”.

مؤلفات وذخيرة من الفتاوى

عُين رئيسا للجنة صياغة الدستور في مصر،  وشغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة، ورئيسا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع عدة سنوات، وترك ذخيرة من الفتاوى والآراء الاستشارية التي تميزت بالعمق والتحليل والتأصيل القانوني الشديد.

كما تميزت بإحكام الصياغة القانونية، ولا تزال تلك الفتاوى إلى الآن تعين كلا من الإدارة والقضاة والمشتغلين بالقانون بشكل عام على تفهم الموضوعات المعروضة عليهم.

ألَّف طارق البشري العديد من الكتب واتسم إنتاجه الفكري بالغزارة، ويعده البعض أحد النماذج الدالة على المعطيات الناجمة من التحولات الفكرية .وهذه بعض مؤلفاته:

  • بين الإسلام و العروبة – الجزء الأول ، صدر سنة 1988 م.
  • بين الإسلام و العروبة – الجزء الثاني ، صدر سنة 1988 م.
  • شارك في وضع منهج الثقافة الإسلامية بجامعة الخليج العربي بورقة عنوانها: نحو وعي إسلامي بالتحديات المعاصرة، صدرت سنة 1988 م.
  • مشكلتان و قراءة فيهما، صدر سنة 1992 م.
  • شخصيات تاريخية، صدر سنة 1996
  • سلسلة كتب بعنوان رئيسي “في المسألة الإسلامية المعاصرة ” بدأ صدورها سنة 1996م بالعناوين التالية:
  • ماهية المعاصرة.
  • الحوار الإسلامي العلماني.
  • الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر.
  • الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.
  • تلاها في سنة 1998 إعادة إصدار الجزء الأول من كتاب “بين العروبة والإسلام” ، ثم الجزء الثاني الذي ضُمت إليه دراستان، و صدر تحت عنوان “بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي”.

انتقادات وتلقائية وحضارة

يقول الباحث المختص في الشأن الثقافي سيد محمود أن طارق البشري “انحاز إلى ما أسماه المفكر اليساري الراحل أحمد صادق سعد “تلقائية الجماهير” كمعطى ذي معالم واضحة، وإن كان عبر إشارات جزئية، إلا أن هذا الاهتمام راسخ في إطاره الفكري العام وركيزة في بنائه الهيكيلي، لكن البشري نال التقدير الأهم في الثقافة المصرية مع ظهور كتاباته الأولى في مجلة “الطليعة” التي كانت تصدر عن  مؤسسة “الأهرام”، وتعبر عن الفكر اليساري تحت رئاسة لطفي الخولي.

ويؤكد سيد محمود في مقال له بعنوان “رحيل المفكر المصري طارق البشري يجدد السجال حول تحولات المثقفين”، أن أفكار البشري تعرضت لانتقادات كثيرة، ورأى منتقدوه أن الحركة الشعبية والهوية الإسلامية الموروثه ظلتا في نظره شيئا واحدا، كما اعتبر أن “العلمانية والصفوة المنعزلة عن الشعب والفكر الوافد شيء واحد أيضاً”، وظل لا يستبعد وجود فكر إسلامي يربط بين الدين والدولة ولا يعد فكرا رجعيا.

وفي السياق ذاته صاغ البشري مفهومه عن “الجماعة الوطنية ” وركز في ما كتب عن الهوية الثقافية كعنصر أساسي للتحرر والتقدم. وهو عنصر أُهمل في كتابات أخرى، وأعطى الأولوية للموروث الحضاري في تأكيد خصائص التميز في الدولة التي تكافح الاستعمار.  وتم التدليل على ذلك بدراساته الأخرى ومنها دراسته الكبرى “المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية” (1980)، وهي أهم دراسة لمؤسسة الأزهر الشريف والكنيسة القبطية.

ويبدو أن الراحل طارق البشري قد بلور في سنواته الأخيرة تصورا متكاملاً عن رؤية للتاريخ المصري، ترى أن مفهوم التراث الذي قدمه يتضمن الكنيسة القبطية وحزب “الوفد” العلماني، معتبرا أن العلاقة بين الهوية القومية والإسلام تعد السمة الرئيسة لأصالتها.