حديث للصائم فرحتان يشير إلى وجود نوعين من الفرحة جبل الناس عليها ويميل إليها الفطرة والطبيعة، وهي: فرحة دنيوية وفرحة دينية، وبيانها كما يلي:

الفرحة الدنيوية: الفرح بما أباح الله تعالى لعباده في الدنيا من الأموال والأولاد والمآكل والمشارب والزينة من الطيبات؛ الأصل في هذه الأشياء إباحة الفرح كما هو فطرة الناس أجمع، وهذا من باب إعطاء الطبيعة حقها من الفرح والسرور اللائق، وإنما يصير مذموما عند مجاوزة الحد والسرف والمبالغة في الاهتمام به وإيثاره على الطاعات والأعمال الصالحة، ثم يصير الفرح معصية أو كفرا عند بلوغ حد الاعجاب بالنفس والغرور والتعالي على الناس ونسيان شكر المنعم سبحانه وتعالى، كقول قارون عن نفسه وماله: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78] ولكن قومه نصحوه وذموا فرحه قائلين: { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} [القصص: 76]

قال ابن عباس: يعني المرحين؛ وقال مجاهد: يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.[1]

وقد نبه القرآن الكريم على نظائر الفرح المذموم في مواضع كي يتخذ الناس العظة والحذر. كما في قوله سبحانه: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] وكقوله تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26]

والمؤمن الكيس لا يجعل همه الإعجاب والاستكثار بالأشياء الدنيئة القدر فضلا أن يخيم عليها فرحه وانبساطه.  

الفرحة الدينية: وهي إظهار الفرح المتصل بنعمة الدين والعبادة، أو أي فرح دنيوي معه شكر لله تعالى فإنه يعد فرحا ممدوحا، لأن الفرح بفضل الله وبرحمته وبكل ما يحبه ويرضى صفة من صفات أهل الإيمان والعمل، وكذا الشعور الذى يحسه المؤمن دبر كل عمل صالح، مثل اللذة والارتياح النفسي الذى يجده الإنسان بعد أداء الصلوات الخمس والتطوع وقيام الليل مثلا، أو غبطة يجدها بعد زيارة أخ في الله تعالى، أو إعانة المحتاجين، أو الفرح بمواسم الطاعات والمناسبات الدينية وانتصارات المسلمين، وغير ذلك من الحسنات التى تسر المؤمنين ويستبشرون بها. وهذا الشعور والفرح في الحقيقة هو جنة الدنيا التى أوضعها الله تعالى في قلوب أوليائه.

ولذا كان أبو سليمان يقول:” أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا”[2] 

وقال إبراهيم بن أدهم:” لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم إذًا لجالدونا عليه بالسيوف”[3].

وقال آخر:” أنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا، حتى أقول إن كان أهل الجنه في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب”[4]

وقال تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك}[الرعد:36]

{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} [التوبة:124].

وهذا يدل على أن كل ما يزيد قلب المؤمن بهجة وفرحة من أمور الدين وما يتصل به وإنه ممدوح ومندوب.

قال ابن القيم: فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به، أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن، كما فسره الصحابة والتابعون.[5]

وفي صحيح مسلم عن أبى ذر رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن»[6]

يقول ابن الجوزي: “والمعنى أن الله تعالى إذا تقبل العمل أوقع في القلوب قبول العامل ومدحه، فيكون ما أوقع في القلوب مبشرًا بالقبول، كما أنه إذا أحبَّ عبدًا حببه إلى خلقه، وهم شهداء الله في الأرض [7]

وشهر رمضان مما لا شك في أولويته بالحفاوة والإجلال والاستبشار وتنويه بشأنه فرحا وسرورا، لعظمة منزلته وركنيته وما حواه من الخيرات والبركات والعطاءات المتنوعة، بل الاغتباط والانبساط بسبب شهر رمضان من خصال المؤمن، ومن ذلكم أيضا:

فرحتا الصائم

يقول : ” للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه “[8]

ينص الحديث على أن للصائم فرحتان: فرحة عاجلة، وفرحة آجلة.

فرحة الصائم العاجلة فهو قوله عليه الصلاة والسلام:” إذا أفطر فرح بفطره” والفرح هنا يشمل فرحة الطاعة وفرحة الجبلة، وفرحة الطاعة هي التى يفرح بها الصائم من أجل ما يسر الله تعالى له من إتمام الصوم، وفرحة الجبلة هي فرحته من إباحة ما منع منه من الأكل والشرب، ومن ثم يكون الفرح عند الفطر على الضربين:

1- الفرح الحاصل عند الفطر اليومي، بعد القيام بصوم ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس.

2- فرحة عيد الفطر الحاصلة عند انتهاء شهر رمضان.

وهذا الفرح – بالمعنيين- يحصل طبيعيا وله من الحلاوة في القلب لا يعرفها ولا يجدها إلا صائم حقا، ولكن قد يعصب تصويرها والحديث عنها، وهو من أتم الفرحة المتصلة بأمر مشروع، ومن فوائده في الغالب أنه كان يذهب الهم، ويكسر الحزن، ويبعث في النفس البهجة، وينشط القلب، ويجدد حيوية الجسم.

وقال ابن رجب: ” أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعا، فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا.

والصائم عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره، فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا، والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى الله وطاعة له ويبادر إليها في الليل تقربا إلى الله وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع له في الحالين، ولهذا نهى عن الوصال في الصيام، فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك” [9]

وهذه الفرحة العاجلة داخلة في عاجل بشرى المؤمن، وﻣﻦ ﺩلاﺋﻞ ﻣﺤﺒﺔ ﺍﻟﻠﻪ تعالى للصائم ﻭﻗﺒﻮﻝ عبادته.

فرحة الصائم الآجلة هي الفرحة العظمى التى يجب أن تصحب الفرحة العاجلة وجديرة أن تستغرق الذهن كي تكون دافعا للصائم عند فطره نحو مزيد الجد في الطاعات والأعمال الصالحة، وإلى إيثار الدعة والراحة والكسل رجاءا تمام الفرحة عند لقاء ربه عز وجل.

قوله عليه الصلاة والسلام:” وإذا لقي ربه فرح بصومه” وما أجل وأروع فرحة غامرة! وما أسمى العبادة التى توصل العبد إلى نيل جائزة اصطفاها رب العالمين لنفسه: “والصوم لي وأنا أجزي به [10] والصيام عبادة سامية وعجيبة، يورث صاحبه الفرحة الكبرى وأحسن السرور وأكمل اللذة.

ومن ذلكم أنه خص للصائم باب في الجنة، كما في الصحيحين عن النبي قال:” إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد[11]

وإنه لفرح عظيم ومقام محمود لا يناله ولا يخلص إليه إلا الموفقون الصائمون من عباد الله الكريم. 

قال الحافظ ابن رجب:” وأما فرحه عند لقاء ربه: فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل: 20] وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [آل عمران: 30] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8][12]

والفرحة الأخروية هي غاية منشودة لدى جميع البشر، وقد هيأ لنا الله تعالى السبيل إليها بالصيام، لا سيما صيام شهر رمضان أعظم موسم القربات ومضاعفة الأجور.

وسأل سائل سفيان بن عيينة فقال: يا أبا محمد، ما تقول فيما يرويه النبي عن ربه عز وجل: ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به “؟ فقال ابن عيينة: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها، إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عز وجل عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة.[13]

ولهذا أدرك سلف الأمة قيمة الصيام وشهر رمضان على وجه الأخص، وأدركوا قيمة النجاح فيه وما يعقبه من الفرحين العاجل والآجل، فاجتهدوا في تحقيق كمال عبادة الصيام أيما اجتهاد، قلبا وقالبا، فصاروا قدوة حسنة.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء” [14]

قال أبو ذر رضي الله عنه: إذا صمت فتحفظ ما استطعت”[15]

 وكان ابن عمر رضي لله عنهما يصوم ولا يفطر إلاّ مع المساكين. وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل[16]

وكان طلق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلاّ لصلاة.[17]

وفي كتب التاريخ أخبار مروية ومشهورة ومضيئة ومشرقة، تحدثت عن سعيهم وتفانيهم في حسن الصيام من أجل الفرح الأكبر عند لقاء رب العالمين بعد فرحهم عند فطرهم في الدنيا.


[1] تفسير ابن كثير 6/253

[2] غذاء الألباب. ص:503

[3] حلية الأولياء٧/ ٣٧٠

[4] ينظر: مدارج السالكين، ابن القيم 3/ 259

[5] الفوائد ص:204

[6] صحيح مسلم (2642)

[7] كشف المشكل من حديث الصحيحين: (319)

[8] متفق عليه.

[9] لطائف المعارف ص:156

[10] رواه البخاري

[11] متفق عليه

[12] لطائف المعارف ص:157

[13] رواه البيهقي في شعب الإيمان (3309)

[14] لطائف المعارف ص:156

[15] رواه البيهقي في شعب الإيمان (3375)

[16] لطائف المعارف ص:168

[17] رواه البيهقي في شعب الإيمان (3375)