التاريخ ذاكرة الأمم، وعمرها الممتد مع الزمن، بما فيه من خبرات وذكريات وصداقات وعداوات ونجاحات وإخفاقات.

كل الأمم والشعوب والقبائل تبحث عن تاريخها وتوثّقه، لأنه دليل أصالتها وعراقتها، وملهم أبنائها وأحفادها، حتى تلك التي ليس لها ذلك التاريخ تحاول أن تنبش في الآثار وفي الجبال والوهاد والقفار لعلها تجد ما تعزز به تاريخها، وتشدّ به آصرة أبنائها.

اليوم نجد بعض المثقفين العرب كأنّهم يتنكّبون لهذه الفطرة الإنسانية، ويحاولون أن يغلقوا سفر تاريخهم ويطمسوا صفحاته، وكأنه عورة يجب سترها، وهذه الظاهرة على قلّتها إلا أنها باتت تتوسّع، وهذا يعني أن هناك مبرراً ما لوجودها وتوسعها، فالتاريخ الذي نتناوله اليوم أصبح في كثير من الأحيان عبئاً وثقلاً على كاهل الأمة، فالاحتقان الطائفي الذي أحرق الأخضر واليابس إنما هو معضلة تاريخية بامتياز، ويلحق بهذا الخلاف حول شكل الدولة، ومؤسساتها، والخلافة، وشروطها، وظاهرة الاستبداد، وأسبابها، ولا شك أن التاريخ حاضر في كل هذه الملفات بقوة، وهناك أيضاً حالة الجمود الفكري والفقهي، والتي يعزوها كثير من المفكّرين إلى ظاهرة “تمجيد الماضي واحتقار الحاضر”، أما على الصعيد الخارجي فهناك تصوّر رائج أننا ربما ندفع اليوم ثمن التاريخ في صراعات دينية وحضارية لم نعد بحاجة إليها، وقد تناولنا هذه النقطة في مقال سابق على صحيفة “العرب” بعنوان “إيران والغرب وتصحيح الأخطاء التاريخية”، حيث يرى بعض ورثة الإمبراطوريات السابقة أن الفرصة قد تكون مواتية لهم للثأر من “الفتوحات الإسلامية.

تقابل هذه النزعة نزعة أخرى تساويها في القوة وتعاكسها في الاتجاه، تدعو إلى تقديس الماضي، والعيش فيه، واستصحابه في كل زاوية من زوايا الحياة، وهؤلاء يقيسون كل شيء بمعيار الماضي، حتى تسمع من بعضهم إنكار التظاهر والتجمعات الاحتجاجية، لأنها لم ترد! ومنهم من تحدّثه عن المراصد الفلكية، ودقة ما توصّلت إليه فيرد عليك بنص من “علم الهيئة” واختلاف المطالع، وكأنها نصوص من الوحي، ورأيت أحدهم يتحدّث من كتاب “الطب النبوي” لابن القيم -رحمه الله- فيقول: هذا هو الطب! والأدهى من هؤلاء من ارتسمت في ذهنه صورة معينة ومحددة من التاريخ للحق الذي يسعى لاستعادته، واستئناف الحياة على أساسه، صورة “الخليفة الزاهد” أو “الإمام المعصوم”، وبالتالي فكل الصور التي يراها إنما هي “الكفر” و” الردّة” والانحراف والضلال، ومن هنا بدأت حملات التكفير، واستباحة الدماء والأموال والأعراض.

بين هؤلاء وأولئك مساحة للتخادم، وإن كانت بغير اتفاق، فكلما زاد هؤلاء في تطرّفهم وتخلّفهم وتمسّكهم بالماضي، زادت رغبة أولئك بالتحلل من كل قيد أو فكرة سابقة مهما كانت، وربما جنحوا أكثر إلى شتم الماضي، والانتقاص منه بذريعة أو بغير ذريعة. هناك الوسط الذي يحاول أن يتجنب تطرّف هؤلاء وأولئك، لكن هذا الوسط ليس واحداً، فهو أشبه بالطيف الواسع الممتد بين الطرفين المتخاصمين، وإن كان يجمعهم التغنّي بالوسطية، والجمع بين “الأصالة والمعاصرة”، ومن هؤلاء من يخبط خبط عشواء، فتراه يأخذ من هذا ومن هذا بطريقة فوضوية لا تستند إلى وعي ولا إلى منهج علمي، فلا هو أبقى على الأصالة، ولا هو استفاد من المعاصرة.

إننا نرتكب أخطاء جسيمة بحق تاريخنا، وربما نقع في مظالم كبيرة حينما نقرأ التاريخ قراءة ناقصة، ثم نتجرّأ بذلك على إصدار الأحكام «الغيابية» بحق التاريخ وبحق من صنع التاريخ، وقد نحرم أنفسنا أيضاً من الدروس التي يمكن أن نستنبطها بأمانة وموضوعية.

تشيع اليوم ظاهرة الاستشهادات التاريخية المقطوعة والمبتورة، فهناك من تقع عينه على رواية ما فيطير بها وكأنه عثر على كنز، هذا إذا كانت توافق مزاجه، والأخطر من ذلك والأظلم إذا كان حتى في هذه الرواية المفردة أو الجزئية لا يأخذ بشروط التحقيق والأمانة العلمية، وعلى سبيل المثال؛ قرأت لأحدهم استشهاده على فكرة يسوّق لها بحديث في الترمذي، مثبتاً في الهامش الجزء والصفحة والطبعة، فلمّا ذهبت إلى هذه الصفحة وجدت الإمام الترمذي يقول في هذا الحديث: حديث منكر!! فهذه -لا شك- خيانة علمية، واستغفال للقرّاء الذين لا يعرفون منهج الترمذي في التأليف والحكم على الروايات، وأنه حينما يروي الرواية يعقّب عليها فيقول مثلاً: هذا حديث صحيح، أو حسن، أو منكر.

إن انتقاء الرواية الواحدة حتى لو كانت صحيحة، والاكتفاء بها عن بقيّة الروايات، يقود إلى نتائج خاطئة، وأحكام ظالمة، فكيف بمن يبتر الرواية نفسها، أو يختار الرواية الأضعف، ويهمل الروايات الصحيحة!

هناك من يكتب: رواه البخاري، فيظن القارئ أن الرواية في صحيح البخاري، ولكنّك تكتشف أنها في التاريخ أو التعليقات، ولا أدري إن كان الكاتب يعرف الفرق بين ما يرويه البخاري في الصحيح، وما يرويه في غيره! وقد وجدت من يرفض أو يشكك في رواية البخاري في الصحيح ويقبلها في غيره، وهذا ينم بشكل واضح عن منهجية مغلوطة، أو عن هوى يخرق الأمانة العلمية، ويدلّس على القارئ والمتلقي البسيط.

ومن القراءة الناقصة والمجتزأة أيضاً من يحتج بمقولة أو رأي أو فتوى لأحد الأعلام ويغفل أو يتغافل عن موقف هذا العالم نفسه من فتواه هذه، متراجعاً أو معدلاً أو موضحاً، وهذا شائع وكثير في تاريخنا وتراثنا، فالعلماء والمفكرون يمرّون بمراحل مختلفة من التكوين والتحصيل والنضج العلمي والمعرفي، وهذا واقع بيننا ومشاهد، فكيف يصح أن تنتقي مقولة قيلت في مرحلة معينة لتبني عليها حكماً عامّاً وشاملاً وقاطعاً؟ فالشافعي مثلاً له في الفقه مذهب قديم ومذهب جديد، والأشعري له في علم الكلام كذلك قديم وجديد، وابن تيمية أفتى بفتاوى ثم تراجع عنها، ومن ذلك قوله بحياة الخضر -عليه السلام- ثم رجّح موته، ومن العلماء من يصرّح بأنه قصد بهذه الفتوى أو هذا التوجيه فئة معينة في ظرف معيّن، كما صرّح الغزالي في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام»، وفي شبهة تقديم الغزالي للعقل على النقل، أوضح الغزالي نفسه في كتابه «المستصفى» ما يكفي لدحض هذه الشبهة وزيادة، فهذا كله تجب مراعاته بالنسبة للباحث والناقد، ونحن هنا لا نقلل أبداً من أهمية نقد التاريخ بكل ما فيه، وإنما ندعو إلى التقيّد بقواعد الأمانة العلمية، والتسلّح بالمنهج العلمي الرصين والأمين في النقد والتحليل والاستنتاج.

إن من مهمة الباحث والناقد المنصف التحقق من مراد المتكلّم، خاصة أولئك الذين ارتحلوا إلى آخرتهم، ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم وأفكارهم ومواقفهم، وخاصّة إذا كان الباحث لا يكتفي بالبحث والنقل عنهم، وإنما يريد أن يقضي ويحكم.

لقد شاع هذه الأيام مثلاً اتهام فقهاء الأمة بأنهم كانوا مع ثقافة الاستبداد، لأنهم يجيزون ولاية المتغلّب، وهذه جناية على الأمة وفقهائها، فلا أعلم فقيهاً معتبراً أجاز ولاية التغلّب -هكذا بإطلاق- وإنما المتغلب عندهم باغ وآثم، لكنهم اختلفوا في جواز الخروج عليه بعد تغلّبه، وهو خلاف ليس في الشرعيّة، وإنما في تقدير المصالح والمفاسد، ولم يقل أحد من الفقهاء بمتابعة السلطان والخضوع له في كل ما يقول حتى لو كان عدلاً، فكيف بالمستبدّ المتغلّب بالقوة؟ وها هو الإمام أحمد بن حنبل -وهو أكثر من يشير إليه الناقدون- يرفض أمر المأمون ثم المعتصم -وهما مَن هما- ويخرج عليهما في مسألة «خلق القرآن» حتى سُجن وضُرب، ولقد تعرّض عدد غير قليل من العلماء “الحنابلة” للسجن والضرب ومنهم ابن تيمية الذي توفّي وهو في السجن، أما مواقف الحنفية والمالكية والشافعية من ولاية المتغلب فمعروفة، وهي أبعد عن هذه التهمة أو الشبهة، ويكفي مراجعة كتاب «غياث الأمم» لإمام الحرمين الجويني، وهو المعتمد في هذا الباب.

الغريب هنا أنك تجد اليوم هذه الحملات كلها موجّهة لنقد علماء السنّة، بينما لا تعثر على إشارة لنقد الطوسي مثلاً، وهو المتحالف مع هولاكو، والذي يقول فيه محمد باقر الأصفهاني مادحاً ومستبشراً: «ومن جملة أمره -يعني الطوسي- المشهور.. حكاية استيزاره السلطان المحتشم هولاكو خان، ومجيئه في موكب السلطان المؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، بإبادة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام من أتباع أولئك الطغام» (روضات الجنّات ج6 ص300)، فلا شك أن توجيه السهام إلى مثل الشافعي، وأحمد، والغزالي، وابن تيمية، والسكوت عن أمثال الطوسي، والأصفهاني، وابن العلقمي، يعني أننا أمام معضلة أخلاقية، ولسنا أمام مشكلة ثقافية أو فكرية، إلا إذا كان هؤلاء يعتقدون أن هولاكو كان قد حرّر بغداد من المستبدّين العباسيين!

هنالك أمر آخر ينبغي التنبّه له، وهو أن الروايات التاريخية لا يصح قطعها عن الظرف المحيط بها، بأعرافه، وتقاليده، وثقافته العامة، وأدواته، وإمكانيّاته، وعلى سبيل المثال، هناك من يدين العهد الأموي والعباسي، لأنه حكم وراثي، والوراثة -عندهم-تعني الاستبداد ولو كان الحكم بنفسه عادلا ورحيما، والحقيقة أن العرب والعالم كله من حولهم ما كانوا يعرفون في ذلك العصر إلا هذا النمط من الحكم، هذه ثقافة ذلك العصر، فهذا العباس يقول لابن أخيه عليّ -رضي الله عنهما-: “اذهب بنا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك..” صحيح البخاري، ولم ينكر عليه عليّ، ولم يقل له: إن هذا خروج عن مبدأ الشورى، لأن الشورى في معطيات ذلك العصر لم تكن مرتبطة بمبدأ سيادة الأمة والشراكة السياسية وتداول السلطة..الخ فهذه مصطلحات تشكلت وتطورت مع تطوّر الحياة المدنية، وتطوّر وسائل التصويت والفرز..الخ ومحاكمة ذلك العصر بهذه المعايير لن يقودنا أبدا إلى استنتاج صحيح أو حكم عادل.