مصطلح “الفكر الإسلامي” وما اشتق منه من مصطلحات أخرى على غرار “المفكر الإسلامي” و”الأفكار الإسلامية”..وغير ذلك مما استحدث في هذا العصر، لم يكن له وجود مستقل عن العلم الشرعي على مدار التاريخ الإسلامي كله. فما معنى الفكر الإسلامي؟ كيف ظهر وتحت أية ظروف؟ وكيف يمكن تحديد مجالاته وأطره؟ هل يمكن وضعه في خانة العلم؟ وماهي العلاقة التي تربطه بالعلوم الأخرى؟

عندما نتحدث عن الفكر الإسلامي، فإننا بالضرورة نتحدث عن أن الفكر إما أن يراد به الكيفية التي يدرك بها الإنسان حقائق الأمور التي أعمل فيها عقله، فيكون الفكر عندئذ بمثابة الأداة أو الآلية في عملية التفكير، وما يلحق بها من طاقات وقوى وملكات عقلية ونفسية. وإما أن يراد به ما نتج عن ذلك (من خلال تلك العملية) من تصورات وأحكام ورؤى حول القضايا المطروحة.

والتفكير هو أحد أهم المفاهيم المؤسِّسة لتقليد العلوم الإسلامية. فالتفكير في آيات القرآن الكريم أخرج علوم التفسير والفقه والكلام وغيرها من العلوم الدينية، وحقق مكتسبات علمية مُنقطعة النظير. والتفكير في الكائنات والآفاق بتوجيه الآيات القرآنية أسس لنشوءَ علوم الطبيعة، ومهد الطّريق أمام أدبيات غنية جدا في هذا المجال. والتفكير في عالم الأنفس بنى تقليد العرفان الذي يضفي ثراء على عالمنا المعنوي، إلى جانب دوره في نشوء علوم النفس والأخلاق.

معنى الفكر

لمعرفة معنى الفكر الإسلامي، وجب توضيح معنى الفكر أولا، باعتباره عملا إنسانيا، ثم تمييز الفكر الإسلامي بما تميز به باعتباره فكرا له خصائصه المرجعية والمنهجية.

إذا كان الإنسان مميزا مكرما بالعقل بما يستلزمه هذا من اختزان الصور، والقدرة على استدعائها، وربط الأسباب بالنتائج بشكل أو بآخر، بساطة أو عمقا، فإن الفكر وإدراك المعلومات يُصبح شيئا من طبيعة هذا المخلوق. وهناك حقيقتان:

الأولى: أن هذه العملية العقلية التي تسمَّى (الفكر) يتفق فيها مَن له علم بالمناهج وطرق التفكر مع مَن لم يُتَح له ذلك لسبب أو لآخر، ذلك أن كليهما يملك عقلًا فطريًّا أو غريزيًّا، ويواجه بما يحتاج إلى حلول أو توجيهات أو اختبارات بين بدائل، فلا بد له من ممارسة هذه الوظيفة على قدر ثقافته. ومِن هنا جاز أن يقال: إن مَن يرفضون التفكير يفكرون كي يرفضوه، وإن مَن يرفضون الفلسفة يتفلسفون من حيث لا يشعرون، لأن الفكر واحد من أبرز خصائص الإنسان.

الثانية: أن لكل فكر مبادئه التي ينطلق منها باعتبارها ثقافته وجو بيئته، وأن لكل فكر غيبياته التي تمثل معتقده، أيًّا كان نوع هذا الاعتقاد دينيًّا أو ماديًّا، ويبقى المقياس في النهاية قدر الاتِّساق بين الغيبيات المعتقدة لفكر ودين، وبين واقع أصحاب هذا الفكر أو ذاك، كذلك تقاس غيبيات الأفكار بمدى تحقيقها السلام الروحي للإنسان الذي يَدين بهذا الفكر أو ذاك. وهذه الحقيقة لها أهميتها؛ حيث يتميز كل فكر بغيبياته وصلاحيتها للحياة، مما يلزمنا بضرورة أن نوضح غيبيات حضارتنا، وعقيدتنا التي أخرجت فكر هذه الحضارة.

مفهوم وتعريف الفكر الإسلامي؟

اجتهد كثير من العلماء والباحثين لمعرفة ما معنى الفكر الإسلامي؟ ولتحديد تعريف أو أكثر للفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه التعريفات أن الفكر الإسلامي هو “كل ما أنتج فكر المسلمين منذ مبعث الرسول إلى اليوم في المعارف الكونية المتصلة بالله سبحانه وتعالى والعالم والإنسان الذي يعبر عن اجتهادات العقل الإنساني لتفسير تلك المعارف العامة في إطار المبادئ الإسلامية عقيدة وشريعة وسلوكا، أو كل ما ألفه علماء المسلمين في شتى العلوم الشرعية وغير الشرعية بغض النظر عن الحكم على مدى ارتباط هذا النتاج الفكري بأصل العقيدة الإسلامية، أو نتاج الفكر الذي تصدى للفلسفات والنظريات الغربية ناقدًا لها وواضعًا البديل الإسلامي محلها، أو كل نتاج للعقل البشري الموافق لمنهج الإسلام، أو كل ما هو غير تجريببي من مقومات الحضارة الإسلامية سواء كان تشريعًا أو علم كلام أو ما شابه ذلك”.

وبعبارة أخرى هو: “الجانب الفكري التصوري البحت الذي يقوم من كل حضارة مقام الخارطة الهندسية المصممة للبناء …، أو هو فقه الوحي وفهم رجال هذا الفكر له ثمّ شروحهم عليه، أو الحكم على الواقع من وجهة نظر الإسلام، أو المنهج الذي يفكر به المسلمون أو الذي ينبغي أن يفكروا به”.

فالفكر الإسلامي عموما يعني مجموع العلوم الدينية والقواعد والأسس التي بنيت عليها هذه العلوم وتاريخها. وإسهامات علماء هذه العلوم فيها. ويعني علم الكلام الإسلامي. ويدخل ضمن الفكر الإسلامي فكر الفلاسفة المسلمين في بعض قضاياه وفكر المتصوفة المسلمين بما فيه المغالي والشاطح فيه. ونقد الفلاسفة للمتكلمين، ونقد المتكلمين للفلاسفة، والجدل مع المسيحية، والجدل بين المذاهب الإسلامية، والردود على الزنادقة.

وحول معنى الفكر الإسلامي، يعرفه د. أبو اليزيد أبوزيد العجمي في كتابه دراسات في الفكر الإسلامي بأنه ” ما أنتجه وماينتجه العقل المسلم من خلال تعامله مع النصوص الإسلامية وفق منهج علمي ، ذلك أن بحوث علماء المسلمين في أية قضية إنما تجمع بين اجتهادهم كمطلب للبحث لابد فيه من إعمال العقل ونصوص من الكتاب والسنة ، يستندون إليها نقطة انطلاق ومرجع تحكيم كل ذلك في ضوء ربط نتائج البحوث بحياة الناس في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية “.

من هو “المفكر الإسلامي”؟

ووفقا لهذه المفاهيم والتعريفات انتشر وصف “المفكر الإسلامي”، فماذا يقصد به ؟! هل هو كثير التفكير في القضايا الإسلامية وبالتالي كثير الحديث فيها وكثير النشر حولها ؟ أم أنه من حصل ثقافة نوعية في مجال الفكر الإسلامي، فاستحق ذاك اللقب أو غير ذلك ؟

مثل هذا اللقب أو غيره لايعني شيئا بغير البحث في تقييم من يوصف به، فالمطلوب في أي متصدر لخطاب الناس حول الإسلام ، خصوصا ممن يضع نفسه – أو يضعه الناس –  مكان قيادة الرأي والتوجيه، أن يكون على قدر واسع من العلم بالشريعة وبالعقيدة وبالقيم والمبادىء الإسلامية، علما يمنعه من تصدير الخطأ أو السقوط في الخلل أو الزلل. كما ينبغي أن يكون على قدر كبير من العلم بتاريخ الإسلام في عصوره المختلفة، وبصراعاته مع خصومه، وبالواقع الذي يحياه هذا الدين ومن يدينون به، وكذلك ما ينتظره من مستقبل علىى مختلف الاصعدة.

كما ينبغي أن يكون عارفا بالمذاهب الفكرية العالمية التي أثرت في الأمة الإسلامية وفي غيرها، ومواطن الخلل والنقد فيها، وأصحاب تلك الأفكار والمذاهب واساليبهم ورؤيتهم في بثها .

مستويات الناس في التعامل مع الأفكار يمكننا أن نعدها أربعة مستويات: المتعلمون والمثقفون والمتخصصون والمبدعون. وقد قسمهم البعض إلى ثلاثة اقسام هي المتعلمون والمثقفون والمفكرون .. وهؤلاء يجعلون المفكر في قمة هرم الإبداع، وبالتالي، وبالتطبيق على الحالة الإسلامية، فالمتمكن من هرم الأفكار العلمية والشرعية والواقعية هو المستحق لمكانة “المفكر الإسلامي “.

و كثيرا ما يحدث خلط بين صفة العالم وصفة المفكر، فالفكر المتميز يتركب من ثلاثة عناصر هي: العلم والرؤية والإبداع، وهو منطبق على كل عالم متميز في مجاله، استطاع أن يثبت فيه انجازا مشهودا .لكن يجمع العالم صفة المفكر مع صفته المتخصصه، في حين يفتقد المفكر وصف العالم إلا لو مر بمراحله وجمع علومه وتخصص في مجاله.

المفكر الإسلامي له ثوابت ثابتة تتجسد في الكتاب والسنة، فلا بد له أن يكون منفتحاً على جميع العلوم الأخرى حتى ولو كانت مختلفة مع مرجعيته الفكرية، لأن ضبطه وتمكنه من هذه العلوم هو الذي سيجعل فكره يرقى إلى أعلى المستويات. والقرآن الكريم دائما يدعو إلى التفكر والتدبر وإلى النقد والتجديد والتغيير.

الفكر الإسلامي وصلته بالعقل والوحي

ينطوي مفهوم الفكر على شيء من الغموض، لأنه استعمل في معانٍ متنوعة بل ومختلفة تراكمت بمرور الزمن حتى أصبح إطلاقه دون تحديد موقعًا في اللبس. وكذلك مسمى الفكر الإسلامي ولا سيما أن هناك استعمالات عدة لمسمى الفكر الإسلامي منها ما وسع دائرة الفكر الإسلامي حتى أدخلت فيه الفلسفات الغريبة عن الإسلام والتيارات المنحرفة عن صراطه المستقيم، لأن تلك الفلسفات والتيارات ذات أصول هندية ومجوسية وثقافات يهودية ونصرانية مثل الغنوصية والهرمسية ونحوهما، ثم يحسب ذلك على الفكر الإسلامي .

ولا يخفى ما تهدف إليه مثل هذه الاستعمالات للفكر الإسلامي من إيحاءات بأن الإسلام وفكره ملفق من تلك الأصول الفلسفية والثقافية الأجنبية، وأنه ثمرة طبيعية للتراث اليهودي دون أدنى احترام للمنهج العلمي في النظر والبحث والمقارنة، لذلك، ولكون الفكر عامة والفكر الإسلامي خاصة له أصالته، وله وجوده في المصادر العربية الإسلامية- فإنه ينبغي تأصيل هذا اللفظ في اللغة والاصطلاح وتجليته كمفهوم وصولا إلى تحديده كمصطلح في العصر الراهن.

كيف ظهر الفكر الإسلامي؟

يقول باحثون في تاريخ الفكر الإسلامي أن منشأه يرجع لما حصل للعلم الشرعي من جمود في العصور المتأخرة، حيث ضعفت قدرة كثير من العلماء عن القيام بواجب تنزيل الأحكام الشرعية على النوازل العصرية، وانتشرت كثير من الأفكار المعاصرة والفلسفات العلمانية التي لم تكن معهودة من قبل، وأصبح البحث عن حلول لتلك الإشكالات ملحَّا ولا يحتمل التأجيل.

وهنا ظهرت طائفة من المفكرين المسلمين لها خبرة بالواقع الفكري الجديد وإدراك لخطورته، لكن مع ضعف في العلوم الشرعية التي يبنى عليها الفهم الصحيح للنصوص الشرعية، فلم تكن عندهم الخبرة الكافية بعلم أصول الفقه ولا بعلم مصطلح الحديث ولا بالتراث العلمي في مجال الاعتقاد والفقه والتفسير وما إلى ذلك، ووجدوا أنفسهم يتعاملون بفهم مباشر للنصوص مع واقع فكري يسعون لبيان الموقف الإسلامي منه، ويحرصون على حماية الهوية الإسلامية من التأثر به.

ومع ما تميز به الفكر الإسلامي من الدفاع عن الهوية الإسلامية والرد على كثير من الشبهات المعاصرة حول الإسلام وإظهار مكانة الدين الإسلامي وشهادته على الواقع المعاصر إلا أنه ظهرت بعض الانحرافات عن الحقائق الشرعية نتيجة ما سبقت الإشارة إليه من الخلل في منهج التعامل مع النصوص الشرعية.

كيف نحدد إطار الفكر الإسلامي؟

يتحدد الإطار المفهومي للفكر في القرآن الكريم بمفاهيمِ التعقل والتفكّر والتدبر والتذكر والتأمل والنظر والبصر والاعتبار. فالتعقل يعني حمل ملَكات العقل على التحرك في الطّريق المستقيم. والتفكّر الذي هو نتيجة التعقل لا زمان له، ويأتي بمعنى التفكير في كل موضوع وفي كل حين. والتذكر المشتق من “ذكرى” و”ذاكر” فهو التفكير بالماضي. والتدبر المشتق من “دَبَرَ” و”تَدبير” يعني التفكير في عواقب ما عشناه. والتأمل المشتق من “أَمِلَ” يأتي بمعنى التّفكير بالمستقبل.

والنظر يعني التفكير بما نراه، والنظر إلى الأشياء والكائنات بالعقل. والبصر يجمع بين العقل والقلب، ويعني النظر إلى الأشياء والكائنات بالقلب. وعملية التفكير التي تجعلنا نصل إلى المعنى والحقيقة بالقول والفكر والعبرة والعبارَة تُسمَّى بالاعتبار. وقد استدلَّت كتب الأصول بقوله تعالى: “فَاعْتَبِروا يا أولي الأَبْصَارِ”(الحشر 2) على الاجتهادِ. بناءً عليه أصبح اسم المجتهِد يطلَق على العالم الذي يجمع كل عمليات التَّفكير هذه، ويُؤمِّنُ فهمنا الصَّحيح للدين.

وفي ضوء هذا الإطار المفهومي، لا بد من إعادة قراءة العروق الرئيسية للفكر الإسلامي ومبادئه وتاريخه، ومناقشتها ومقارنتها وتَفسيرها، من أجل نظرة ويقظة وبناءٍ وإحياء جديد، فوجود حضارة جديدة وإحياؤها يكون ممكنا بتحديد المنهجية والأصول التي تُبَيِّنُ المصادر التي يجب أنْ نَتَّخذها أساساً في هذا المجال، والعلاقة التي نبنيها مع هذه المصادر، وفي هذا الاتِّجاه ينبغي علينا أولا أنْ نُحدد الحجر الأساس لتاريخ الفكر الإسلاميِّ. وفي سياق تحديده ينبغي أن نَتَجنب القراءة التجزيئيةَ ونعتمد القراءةَ التكامُليةَ؛ لأن تاريخ الفكر الإسلامي مترابط بعضه ببعض، باعتبارهِ كلا متكاملا.

ولن يكون بناء تصور الحضارة الإسلامية ممكنا إلا عندما نقرأُ التَّراكم الذي نملكه بشكل فعَّال ونفهمَه بشكل صحيح، وبدونِ ذلك لا يمكن بناءُ عقل حضارة جديدة ولا تكوين تطبيقاتها ومُمارساتِها، ويؤسِفنا أنْ نقول إن المصادر الأساسيّة لتاريخ الفكر الإسلامي لا يمكن قراءَتها، نظرا لوجود مشكلَة المنهَج في القراءة والفهم، فما يزال المنهج في قراءة هذه المتون مشكِلة في ذهنِ القارئ، فبعضُ الشرائح تريدُ أنْ تقرأَ هذه المتون كما تقرأُ المُتونَ العاديةَ، ثم تَجِدُها في أغلب الأحيان خالي من المعنى وغير ضرورية، وتتخلَّى عنها، وتُقرأُ أحيانا دون العمل على تفسيرها وإثرائها، ونقل روحها إلى يومنا، لأنه لا يتم النفوذ إلى عالم الكلمة والمفهوم.

الاستشراق والتركيز على الفروقات المذهبية

لقد ركزت أعمال تاريخ الفكر الإسلامي المُمَنْهَجة التي تمَّ تناولها من قبل المُستشرقين، والعلماء الَّذين نشؤوا تحت تأثير هذه الأعمال، على الفروقات بين مذاهب الإسلام المختلفة، أكثر من التركيز على تحديد أرضيتها المشتركة، فتمَ تجاهل الديمومة والتماسك والتكامل الداخلي لتراكمات الفكر الإسلامي، وتم تقديم الجدل داخل مناهج الفكر بين أتباع المذاهب المختلفة على أنه جدل الفئات الدنيا، ونتيجة عولمة الفصل التصنيفي الذي ظهر في التقليد اللاهوتي الفلسفي الغربي، أصبح تمييز التصنيف الأعلى أمرا معترَفا به من أجل جميع الأديان بشكلٍ لا يقبل النقاش، وعند تطبيق التمييز بين علم اللَّاهوت والفلسفة والتصوف على تاريخ الفكر الإسلامي، أصبح التصنيف الأعلى بين الكلام والفلسفة والتصوف (أو البيان والبرهان والعرفان)، نقطة خروج جميعِ الدّراساتِ.

وانطلاقا من نقطة الخروج هذه، ظهر الغلو الكبير في الفروق بين المذاهب، وطوى النسيان حقيقة تطور هذه المذاهب من أرضية مشتَركة، والخطأ الحاصل في التصور نتيجة هذا الفصل التصنيفي اليوم يشكل العائق الأكبر أمام الأبحاث المتعلقة بتاريخ الفكر الإسلامي، وتطور هذا الفصل التصنيفي الذي ازداد حدة مع مرور الوقت، إلى تصلب المذاهِب التي تملك نهجا مختلفا خاصا بها في العالم الإسلامي، وأصبح أتباع كل مذهب ينظرون إلى تقليد الفكر الإسلامي من زاويتهم الخاصة، ويَرفضون رفضا مطلقا جميع العناصر التي تخرج عن التقليد، بدلا من أن ينظروا إلى هذا التقليد باعتباره فهما كليّا، ويعيدوا بناءه ضمن أبعاد الزمان والمكان، وبما أنه لم تتم رؤية الفرق الهام بين أن يكون لدى الإنسان تقليد بالمعنى الإيجابي، وبين أنْ يكون تقليديا بالمعنى السلبي، فقد تمت تصفية العناصر التي افتَرضت أنها تُشكِّل عبئا أثناء المحاسبة القائمة مع الحضارة الغربية؛ تصفية كبيرة حتى أصبح الحديث عن تاريخ الفكر الإسلامي أمرا مستحيلا على وجه التقريب.

انحرافات الفكر الإسلامي

يرى البعض أنه وفقا للمنهج القائم على العلم والعدل في التعامل مع الفكر الإسلامي كظاهرة – مع عدم التقليل من جهد المفكرين الإسلاميين في نقد الفكر الغربي وبيان خطره على الأمة – فإنه لا ينبغي قبول ما أدخلوا فيه أنفسهم مما لم يحسنوه ولم يتهيأوا له، وهو ما حصل لهم من الانحرافات في فهم النصوص الشرعية نتيجة مخالفة المنهحية العلمية المعتبرة عند أهل العلم.

وقد تباينت هذه الانحرافات وتنوعت، بل إنها قد تناقضت في بعض الحالات، لكنه يشملها مع ما بينها من تفاوت أنها لم تكن مستندة إلى معايير شرعية منضبطة، وإنما كانت استجابة لظروف خاصة، وردود فعل لأحوال محددة ، ثم أخذت عند أصحابها طابع التعميم، ولم تقف تلك الانحرافات عند مجرد الاستجابة لمواقف معينة، وإنما ترتب عليها إحداث تفسيرات جديدة لحقيقة الدين، ومع أن كل تفسير من تلك التفسيرات هو مجرد تغليب لأمر جزئي إلا أن كل طرف كان يزعم بأن ما ادعاه هو التفسير الحقيقي للدين، مما أحدث خلافات حادة بين تلك الاتجاهات، وزاد من شقة التفرق والخلاف بين المسلمين.

مسؤولية المفكر

إذًا، الفكر الإسلامي – أو نتاج العقل المسلم – واسطة بين النص والسلوك، مصدره النص، ووظيفته تغيير السلوك إلى مقتضى ما جاء في الكتاب والسنة.

والذين اختارهم الله لهذا العمل، هم مقتدون بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مهمة الفهم والتبليغ بما يستلزمه من جهد في الاستنباط، ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم مثل الوالد أُعلِّمكم)[9]، والرجاء مِن هذا العلم والتبليغ هو الانفعال به، والاقتناع الذي يدفع إلى سلوك، ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

وفي ضوء هذه الإشارات ينبغي أن نفهم الجانب العملي المعلم في الإسلام (إنما العلم للعمل)، وحرمة كتمان العلم ومسؤولية العلماء في نصح الحكام والعامة على السواء، وهذه السِّمة العملية للفكر الإسلامي تُبرِز اهتمامه بالواقع ومحاولة ترشيده وتوجيهه نحو الأفضل والأمثل.

وإسهامات العالم الإسلامي في مجالاته المختلفة هو الدليل العملي على تبنِّي العلماء لقضايا عصورهم، وعلى آثارهم في حياة الناس في كل عصر، فضلًا عن أثرهم على الحضارة العالَمية؛ حيث أتيح لها أن تتعرَّف إلى العلم الإسلامي في بغداد وقرطبة وغيرهما من عواصم بلاد المسلمين.

ومن هنا كان مِن الفكر الإسلامي ما قدَّمه علماء المسلمين من اهتمام ودراسات بعقيدة السلف، أو الأخلاق، أو التعليم، وكذلك ما تقدمه من تصور لوحدة فكرية للأمة الإسلامية.