عقدت مؤخرًا كلية دار العلوم بجامعة المنيا، بمصر، مؤتمرها الدولي التاسع تحت عنوان “الدراسات البينية في العلوم العربية والإسلامية في ضوء التسارع التكنولوجي والمعرفي” (في الفترة من 24- 26 مارس الماضي).. والذي جاء محاولةً لتجسير الفجوة بين العلوم، بعد أن تشعَّبت وتشَّظت على هذا النحو غير المسبوق.

 

في هذا الحوار نتعرف من الدكتور محمد صالحين، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي بكلية دار العلوم، جامعة المنيا، على مفهوم “الدراسات البينية”، وأهميتها، ومجالاتها، ودورها في دفع حركة الاجتهاد المعرفي المطلوبة.. بجانب التعرف على أهم توصيات المؤتمر..

والدكتور صالحين أكاديمي مصري، متعدد المشارب والاهتمامات العلمية؛ فهو متخصص في العقيدة والفلسفة الإسلامية وحصل على الدكتوراه من كلية دار العلوم- جامعة المنيا بنظام الإشراف المشترك مع معهد علوم الاستشراق- جامعة ماينز بألمانيا، في موضوع: (الاعتقاد في المنتظر وأثره في الفكر السياسي.. دراسة مقارنة في المِلَل والنِّحَل).

صورة مقال محمد صالحين: الدراسات البينية تفتح آفاقًا جديدة في البحث العلمي

كما حصل الدكتور صالحين من الأزهر الشريف على الإجازة العالمية في القراءات القرآنية.. وقدَّمَ للمكتبة الأكاديمية نحو ثلاثين بحثًا في حقول: العقيدة، الفكر الإسلامي، التصوف، مقارنة الديانات، الاستشراق، الأخلاق، الفلسفة الإسلامية.. ومن أهمها: (السنن الكونية في نصوص القرآن الكريم.. سنة الاستبدال نموذجًا)، (جهود ابن القيم في تهذيب الفكر الصوفي في القرن الثامن الهجري)، (آداب الجدل عند فخر الدين الرازي.. نظرية وتطبيق)، (منهج ابن حزم في نقد نصوص الكتاب المقدس)، (صورة نبي الإسلام في الفكر الغربي الحديث)، (ثلاثية الإنسان، الأرض، الزمن: تدبر في نصوص القرآن الكريم)، (ماذا تبقى من المشروع الفلسفي لعبد الرحمن بدوي؟).. فإلى الحوار:

ما مفهوم “الدراسات البينية”، وما الدافع إليها؟

الدراسات البينية (Interdisciplinary) هي بحوثٌ علميةٌ مُعمَّقةٌ، لا يقنعُ أصحابُها بالاكتفاء بالتخصص الدقيق؛ منفردًا، بل يتوخَّون الكشفَ عن مناطق التخوم: (التجاور، التلاقي، التقاطع، التشابك، التقارب) بين العلوم، وهي دراساتٌ تجمعُ بين النظرة التخصصية الدقيقة، والنظرة الموسوعية الشاملةِ، وتؤمنُ بالتكامل المعرفي بين كافة العلوم، وترى أن هذا التكامل بات ضرورةً مِنْ ضرورات المنهج العلمي النافع، في هذا العصر.

ولا تقتصر الدراسات البينية على صِنْف من العلوم، دون آخر، بل يمكن اكتشافُها، وتسخيرُها، بين كافة العلوم الإنسانية من جهة، وكافة العلوم الكونية من جهة أخرى، وكافة العلوم التطبيقية من جهة ثالثة.

وتكمن أهميتُها في كونها تُبَشِّرُ بمنهاجية جديدة؛ تتضافرُ فيها كافةُ العلوم؛ لخدمة الإنسان، وتيسير استخلافه في الأرض، وتفعيل التسخير الرباني لما في السماوات وما في الأرض لمنفعة بني آدم، ومصالحهم العاجلة، والآجلة.

“الدراسات البينية”.. مهمةٌ، أمْ ترفٌ فكريٌّ قليلُ الجدوى؟

بينما تجاوزَ الجزءُ المتقدمُ مِنَ العالمِ هذا السؤالَ منذُ نصفِ قرنٍ، لا نزالُ نحنُ نطرحُ السؤالَ القديمَ نفسَه!

هم تجاوزوه بالفعل؛ لأنهم انتفعوا تطبيقيًّا بتجسيرِ الهوَّةِ بينَ وشائجِ العلومِ؛ مِنْ خلالِ الدراساتِ البينيَّةِ؛ فعلمُ النفس تمَّ تسخيرُه في اكتشافِ علاجاتٍ لبعضٍ مِنْ أسبابِ الجريمةِ، وعلومُ الحاسوبِ باتتْ تخدمُ علوم اللسانياتِ (اللغاتِ واللهجاتِ) خِدْماتٍ جوهريةً لا غَناءَ عنها، وعلمُ الهندسةِ الوراثية أصبح جزءًا لا يتجزأُ مِنَ العلومِ الطبيةِ؛ بكافَّةِ فروعِها، على حينْ أصبحَ علمُ الرياضياتِ مُكَوِّنًا أساسيًّا في كافةِ التطبيقاتِ الفيزيائيةِ، والصناعيةِ، والتقنيةِ؛ مِنْ بابٍ أولى.. والمنظومةُ متشابكةٌ، إلى حَدِّ التداخلِ، فضلاً- بطبيعة الحال- عَنِ الدراساتِ البينيةِ الظاهرةِ بَيْنَ علومِ اللغةِ، وعلومِ الشريعةِ، وبَيْنَ العلومِ النقليةِ، والعلومِ العقليةِ كافَّةً.

والسؤالُ الصحيحُ: متى نُفَعِّلُ الدراساتِ البينيةَ في دوائرِنا العلميةِ البحثيةِ، وأنشطتِنا العلميةِ والثقافيةِ.

هل “الدراسات البينية” لها مجال محدد، أم هي منهج أو أداة معرفية تنساح في مختلف العلوم؟

كما أوضحنا في إجابتنا عن السؤال الأول: فإن الدراساتِ البينيةَ عالمٌ منهاجيٌّ وسيعٌ، لا يَحده حدٌّ، بل يمتدُّ أفقيًّا باتساع العلوم كافة، ويتعمَّقُ رأسيًّا بقدر رسوخ التخصصات الدقيقة منفردةً، ويتعملقُ تطبيقيًّا؛ حتى يصلَ الفجواتِ بين المادة والروح، بين الشهادة والغيب، بين الجسد والقلب، بين النظرية والتطبيق، بين القول والفعل، بين الوسيلة والغاية، بين الأرض والسماء، بين المشرق والمغرب، بين العقل والنقل، بين الآداب والفلسفة، بين الفنون الجميلة والعلوم البحتة.

وعليه، فالدراساتِ البينيةَ منهجٌ ووسائلُ، يفرزانِ علومًا جديدة، ويتكشفانِ مساحاتٍ مجهولةً في هذا الكون الرباني المعمور، ويكشفانِ عن أسرارٍ، لم يكنْ بإمكان المنهاج التخصصي بقادرٍ على كشفها منفردًا.

من المؤكد أن “الدراسات البينية” ذات صلة وثيقة بـ”التكامل المعرفي”.. فكيف يمكن تحقيق إنجاز فيها في ظل تشظِّي المعرفة والعلوم في واقعنا الراهن؟

في تصوري أن العلوم الإنسانية والكونية والتجريبية قد مرتْ بأحقاب عديدة؛ بدءًا من المرحلة الموسوعية، إلى المرحلة التخصصية العامة، ثم مرحلة التخصص الدقيق، ثم مرحلة التشظي الأدق.. والآن نعود إلى مرحلة الموسوعية المعرفية، ولكن من باب: الدراسات البينية.

ما الدور الذي يمكن أن تؤديه “الدراسات البينية” في دفع حركة الاجتهاد المعرفي المطلوبة، وتطويرها؟

يجبُ على القائمين على منهاجية الدراسات البينية- من وجهة نظري- أن يضعوا خارطةً إنجازيةً معرفيًّا، نوعيةً، وكيفيةً، وكميةً؛ وهذا مشروعٌ كبيرٌ، يمكنُ للعلماء أن يقدموا رؤيتهم إزاءَهُ، غير أن تفعيل هذه الرؤية، وتطبيقَها: يحتاج إلى مؤسسات علمية، ذات ميزانية مالية ضخمة، وهو ما يتوافر في البلاد المتقدمة فحسب!

تراثنا الممتد عبر قرون.. هل عرف “الدراسات البينية” على نحو ما، أم هي مرتبطة بالتطور المعاصر للمعارف والعلوم ؟

نعم، عرف تراثُنا الدراساتِ البينيةَ مبكرًا، غير أن ذلك كان على مستوى معارفهم الزمنية في حقبهم- وكثيرُ منها كان متقدمًا بمقياس عصورهم وبيئاتهم- وظلتْ الفجوة تتسع بمرور الزمان، حتى أصبح من الضروري بناءُ جسورٍ؛ لسد الفجوات بين العلوم.. وتلكم هي مَهَمَّةُ الدراسات البينية.

ما أهم البحوث المقدَّمة إلى المؤتمر، خاصة فيما يتصلُ بالدراسات الإسلامية والفلسفية؟

لقد أعلن الأستاذ الدكتور محمد الريحاني، رئيس المؤتمر، أن أمانة المؤتمر تلقت نحوًا من مائتي بحث، قبلتْ اللجنة نحوًا من ستين بحثًا.

ومن البحوث اللافتة:

– أثر علم الرياضيات في وضع عروض الشعر العربي.

– مسرح الطفل، بين الفكر الإخراجي، والسلوك التربوي.

– سيميائية النظام التواصلي وإمدادات البينية، من الأنساق اللغوية، إلى الأنساق الأيقونية.

– توظيف العبارة التراثية في النص السردي.

– صورة الأنثى (المرأة) في قصص الأطفال.

– تضافر المناهج بين الدراسات النقدية والألسنية.

– الألفاظ القانونية ومفارقاتها التداولية، بين المفهوم الإجرائي الرسمي والمفهوم التواصلي.. مقاربة تداولية.

– أثر الدرس اللغوي المعاصر في مقاربة الخطابات الإعلامية.

– الأنثروبولوجيا اللغوية والتراث في قصيدة (أَنس الوجود) لأحمد شوقي.. مقاربة سيسيوثقافية.

ومن البحوث في حقول الإسلاميات:

– الدراسات البينية وأهميتها المعرفية في بيان العلاقة بين علم الكلام وأصول الفقه.. مسألة التكليف بما لا يُطاق أُنْمُوْذَجًا.

– الدراسات الفقهية البينية.. أهدافها، مجالاتها، مصادرها، معوقاتها.

– دور كراسي البحث العلمية في تطوير الدراسات البينية بين العلوم الإسلامية والعلوم اللغوية.

– بين البلاغة والأصول .. المقتضى أنموذجًا.

– تجديد الفكر البلاغي، وأثره في إرساء معالم التفسير البياني.

– الدور المعرفي التأصيلي المتكامل، للعلاقية البينية بين علم الفقه الإسلامي وعلم المحاسبة، في معالجة المعاملات المالية، وأثره على الأداء المالي في المصارف السودانية

وما أهم التوصيات التي انتهى إليها المؤتمر؟

انتهى المؤتمر إلى عدة خلاصات وتوصيات، لتفعيل الدراسات البينية في مختلف العلوم.. ومن أهمها:

– أوضح المؤتمر أن إبستمولوجيا الدراسات البينية تمثل انعطافة بالغة الأهمية في المنهجيات والأنظمة العلمية المعاصرة. ويستشرف المؤتمر أن تكون هذه الانعطافة إسهامًا معرفيًّا مرموقًا في تقدم العلوم الإنسانية في ظرفها التاريخي المعاصر.

– أكد أن الرؤية البينية رؤية إبداعية تعتمد على حوار المناهج، وتلاقح الأفكار، وتعدد المنظورات في ربط الظواهر وتعميق الصلات بين القضايا.

– دعا إلى تبني الرؤية البينية في مجال الأنظمة العلمية القائمة في التعليم؛ من أجل أن تترسخ لدى المتعلم قيم تعدد المنظورات وتفاعلها وتكاملها؛ فلا تستقطبه أحادية المنهج، أو انغلاق التخصص.

– وجَّه الدعوةَ للمجالس العليا للجامعات في عالمنا العربي والإسلامي لاعتماد مقرر خاص باسم (مدخل إلى الدراسات البينية)، يكون متطلبًا جامعيًا: وذلك لبناء معرفة منهجية وعلمية لدى الطالب، تقوم على ربط الظواهر وتكاملية المناهج وتداخل المعارف.

– دعا إلى ترسيخ الرؤية البينية في الفضاء الثقافي العام؛ لما لها من دور في إشاعة الانفتاح الفكري والحوار العقلاني، وصدق التوجه إلى التواصل مع الآخر، والعمل بروح الفريق.

– أوصى المؤتمر بأن تستثمر العلوم الإسلامية تاريخها الممتد؛ الذي شهد تفاعلاً حيويًّا بين فروعها المختلفة من جهة، وبينها وبين علوم  العربية وغيرها من المعارف من جهة أخرى.

أليس المطلوب لتفعيل هذه التوصيات إعادة النظر في مناهج الكليات والجامعات؟

إن كان الاتجاه نحو التخصص الدقيق هو السمةَ الغالبةَ على البحث العلمي والتفكيري حتى منتصف القرن العشرين، فإن آليات العولمة وتفجر الثورة المعلوماتية قد فرضتْ على العالم المعاصر توجهاتٍ وأفكارًا مغايرةً تؤكد على وحدة المعرفة وأهمية التكامل بني التخصصات فيما أطلق عليه اصطلاح (الدراسات البينية).

ذلك الاتجاه المعرفي الجديد الذي يؤكد على تشابك وجهات النظر العلمي وضرورة ربط المعلومات في نظام يتصل فيه جميع التخصصات، فضلاً عن ارتباط كل هذه المجالات بالعلوم الإنسانية الأخرى: النفسية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك مما يعد حتميًّا للوصول إلى مخرجات موضوعية للبحث العلمي وتفسير الظواهر وحل المشكلات؛ نظراً للتطور المتسارع في ميادين المعرفة ومجالات البحث العلمي ومناهجه، والتحولات الكبيرة في كافة ميادين المعرفة.

ويمكن القول: إن الدراسات البينية مرحلةٌ من مراحل تطور العلم تلت مرحلتي الموسوعية والتخصص.