خرج رسول الله من مكة مستخفيا من القوة الباطشة بمكة، تاركًا هو وأصحابه ديارهم وأموالهم وممتلكاتهم ،وسمَّى الله عز وجل هذا الخروج نصرًا، فقال : ” إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة/40] فكيف يكون الخروج على هذا الوجه انتصارًا!

الهجرة كانت إنقاذا من قتل محقق

إن الهجرة كانت إنقاذًا من قتل محقق،  فقد اتخذت قريش قرارها بأن  تُجهز على هذه الدعوة الوليدة وعلى أتباعها واحدًا تلو الآخر.

فلم يكن أمام رسول الله إلا  خياران:

الخيار الأول : أن يبقى هو وصحابته في مكة، تتصيدهم قريش واحدا تلو الآخر، حتى يفنوا جميعا، تأخذهم كما يأخذ الإعصار القاصف أعجاز النخل الخاوية.

ومن المهم هنا أن  نستحضر شيئا قد يغيب عن البال، وهو أن هذا المصير كان محتوما لو بقوا في مكة لسبببن اثنين:

السبب الأول : انعدام التكافؤ، فمع قريش العدد والعدة والنفوذ والسلطان والإعلام ، وكل أسباب القوى المادية الأرضية، وليس مع أصحاب رسول الله منها شيء، فلا عدد ولا عدة ولا إعلام ولا سلطان ولا مال. فكانت المواجهة ليست إلا قرارا بالانتحار.

السبب الثاني : لأن القوم كانوا مكفوفين عن الجهاد في مكة، فلم يكونوا بعدُ قد أمروا بالجهاد، حتى جهاد الدفع، فكانت هذه هي المرحلة التي قال الله عز وجل فيها : ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ [النساء/77] حتى شرع الله عز وجل لهم الجهاد بعد في قوله : ” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج/39، 40]. وقال فيها : ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]؛ حيث الكفُّ والإعراض والصَّفْح.

الهجرة كانت احتفاظا للقوة النامية

الخيار الثاني : التفكير في حلٍّ، يمكن معه الاحتفاظ بهذه القوة النامية بعيدا عن قوة البطش حتى يشتد أزارها، ويقوى أوارها فتتكافأ القوى أو تتقارب. فكانت الهجرة، حيث الاحتفاظ بهذه القوة  بعيدًا عن أماكن نفوذ قريش، هناك في المدينة، حيث كان قد مهّد مع الأنصار على أن ينصروه ويمنعوه من أي عدو يتهددهم.

فلم يكن يوم الهجرة إلا يومًا من أيام النصر والعزة في الإسلام، ولم لا يكون كذلك ، وهو اليوم الذي بدأت فيه الخطوة الأولى لبناء دولة الإسلام، والخطة الكبرى لاستنقاذ الجماعة المؤمنة، ريثما تشب وتقوى فتعود فتية صلبة، تفتح القلوب ، وتستنقذ الحق المسلوب، وتتوالى في  انتصاراتها هادرة الأمواج، قوية الانطلاق، قاهرة الردع، سريعة الحركة، جياشة المد، فوارة الاندفاع، عظيمة المنح والعطاء.

إن عمر الفارق الملهم قد لَمَحَ ببصيرته هذا المعنى الكبير في يوم الهجرة فجعله مُفْتَتَح تاريخ الإسلام، وليس معقولاً أن يبدأ تاريخ المسلمين بيوم انهزم فيه الإسلام.

اعتراف قريش بأن الهجرة نصر

ولقد أدركت قريش هذا المعنى في الهجرة ، فاجتمعت لتمنع رسول الله من الهجرة إلى أنصاره حيث القوة والمنعة والإيمان والفداء والتضحية والبطولة وصدق الإخلاص للدعوة ، فعرفوا أنهم مأكولون بسيوف المهاجرين والأنصار ، يمضغونهم كما تمضغ الرحى هري الطحين لو أن محمدا وصل إليهم ، وأمسك بيده زمام قيادهم، ,وأحكم  بسياسته نظام مجتمعهم القوي الرهيب.

لقد كان يوما تلته أيام، فقد كان بعده  بدر، وحمراء  الأسد، وفتح مكة، وغيره من أيام لم تكن تتحقق إلا بادخار هذه الفئة المؤمنة.

لقد كان الإسلام في هذه الفترة من تاريخ الدعوة، كان يتطلب أن يعيش له وأن يحيا من أجله كل فرد من أبنائه ، فضلا عن الرجل الأول فيه محمد .

كان الإسلام يفرض عليهم أن يعيشوا من أجله حتى يكونوا له على ظهر الأرض أمة راسخة البناء، ودولة سامقة اللواء.

فإذا استقامت للدين الجديد أمته ودولته، سُفكت لحياطتها الدماء، وقُدِّم للدفاع عنها الفداء!!

لقد كانت حياة كل مسلم قذى في عين الكفر والكافرين، فضلا عن حياة المسلم الأول .

إذن فليمسك المسلمون بحياتهم حتى يغرسوا نبت التوحيد في أرض الجزيرة وفيما حولها، ولا عليهم بعد إذ غرسوه أن يرووه بدمائهم.[1]

مواجهة الباطل وتحديد الزمان

إن مبدأ الهجرة في هذا السياق يعلمنا أن مواجهة الباطل ليست مطلوبة في كل وقت، بل  تكون مطلوبة حيث كانت المواجهة في صالح الحق، وإلا فالصبر والكمون حتى يتجهز أصحاب الحق للمواجهة، وإلا كانت نوعاً من الانتحار.

إن هجرة النبي وأصحابه، كانت فرارا من  موت  ليس معه فائدة للمسلمين، فكيف يكون الموت حينئذ مكرمة؛ ولذلك فإن رسول الله هو الذي حافظ على هذه الرقاب من تلك الميتة الرخيصة، وهو نفسه الذي  جمعهم من بعد على جبهات القتال، واستحثهم للهجوم والصمود، واستنهضهم للثبات حتى الممات، فكان يقول لهم في بدر مثلا : “لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة”

نعم، الآن تسفك الدماء حيث يكون سفكها مظنة للنصر، فحينئذ يكون الموت شهادة في سبيل الله.

كما تعلمنا الهجرة أن أصحاب الحق ليس لهم عند الله عهد أن ينصرهم في مواجهة الباطل على أي حال كانوا عليه من الضعف في  العدد والعدة، فإن الأمر لو كان كذلك لنصر الله نبيه على أعدائه في مكة دون حاجة إلى الهجرة، بل لا بد من الإعداد الذي أمر به الله تعالى : ” {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]

 


[1] – تأملات في الدين  والحياة للشيخ محمد الغزالي (76)