انطلق الدكتور محمد عياش الكبيسي في معالجته لمنهج القرآن الكريم في مكافحة الإشاعة من طرف توضيح المقصود بالإشاعة، واختار أن الإشاعة هي نشر الأخبار بدون تثبت وغالبا ما يكون وراءها مقاصد خطيرة إذ تعد الإشاعة سلاحا مهما في الحرب النفسية.

ثم بين أنواع الإشاعة التي وقعت في القرآن الكريم خلال الآيات والسور التي تناولت القصص النبوي وتعقيب القرآن على بعض المعارك والفتن، وقسمت الدراسة أنواع الإشاعة التي وردت في القرآن الكريم باعتبار الهدف والغاية منها في أربعة هي: الإشاعة المنفرة  – الإشاعة المفرقة  – الإشاعة المتبطة – والإشاعة الأخلاقية. كما بين الباحث المنهاج القرآني في معالجة هذه الأنواع ووصف هذا العلاج في طريقين، الأولى أسماها بالطرق الوقائية، والأخرى الطرق العلاجية المباشرة.

أنواع الإشاعات

وسبق البيان المجمل عن أنواع الإشاعات وذلك من حيث الغاية والهدف المراد تحقيقه من الإشاعة، وهنا يمكن بسط تفصيل هذه الأقسام فيما يأتي:

النوع الأول الإشاعة المنفرة: يستعمل هذا النوع من الإشاعة للتضليل وللنيل من أهل الحق، ولكن لا يصوب الهدف مباشرة إلا من الخارج، وذلك للحيلولة بين الصف والناس الآخرين، “وهذا النوع لا يتورع فيه الخصم من الكذب الصارخ طالما أن المقصود التضليل الخارجي، والذين في الخارج تخفى عليهم الحقيقة فيمكن أن تفعل فيهم الإشاعات فعلها”.

اعتمد هذا المنهج مشركو قريش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وصفوه بأنه كاذب أو أنه ساحر مجنون، يقول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)) [الأعراف]، ويقول الله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ(2)) [يونس]، (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)) [يونس].

يقول ابن إسحاق: “فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون”.

يقول الدكتور عياش: وبهذا نفهم كيف يتجرأ اليوم المستشرقون وبعض وسائل الإعلام المعادية للإسلام على تزييف الحقائق ونشر الأكاذيب في العالم كله، إذ إن الفئة المسلمة الواعية لحقيقة الأمر لن تملك تبيين هذه الحقيقة لكل الناس، إذ لا زالت تنقصهاا وسائل الإعلام والاتصال والترجمة، وستؤثر هذه الإشاعات الباطلة في وضع الحواجز بين القلة الواعية الجماهير الغافلة.

النوع الثاني الإشاعة المفرقة: ويوجه هذ النوع من الإشاعة إلى داخل الصف بغية تفكيكه وإثارة القلاقل داخله. وعرف المنافقون في المدينة بهذ الدور الخطير، وجاءت مئات الآيات في القرآن الكريم لتلاحق هذه الفئة في جهرها وسرها، وتبين جسيم خطرها.

يقول االله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)) [الأحزاب].

وهذا التحذير للمرجفين وهم الذين يروجون الأخبار الكاذبة داخل الصف المسلم يعطينا صورة للدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة الذين لا يتركون فرصة لإثارة الفتن والمشكلات بين المؤمنين إلا استغلوها، حتى قال الله تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)) [التوبة]. والقرآن يبين ان هذا الإرجاف وتلك الفتنة ما كان لهما أن يجدا طريقهما إلى أهدافهما لولا أن في داخل الصف من يسمع لهؤلاء! والقرآن  هنا يحذر من مكايد المنافقين، ومن ضعف بعض المؤمنين الذين يسمعون لهذه الإشاعات على حد سواء.

النوع الثالث الإشاعة المثبطة: وهو نوع من الإشاعة يوجه إلى داخل الصف المسلم بغية تثبيطه وتوهين عزيمته، ويعرف هذا النوع في أيام الأزمات والحروب، وهو الذي يعد اليوم من أبرز أسلحة الحرب النفسية، ويعد من أخطر أنواع الإشاعات لدقة الظرف الذي تعمل فيه، وعدم إتاحة الفرصة الكافية لمعالجة الآثار السريعة المترتبة عليه. ومن نماذج ذلك:

يقول الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)) [آل عمران]، وهذه الآية نزلت عقب معركة احد وتخص الإشاعة التي أطلقها المشركون أثناء المعركة: أن محمدا قد قتل، وشاعت هذه الفرية فكان لها الدور الكبير في تثبيط بعض المجاهدين.

يقول المباركفوري: “وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها إرتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحا يصيح: إن محمدا قد قتل. فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية، أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكينا، وفكر آخرون في الإتصال بعبد الله بن أبيّ- رأس المنافقين- ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.” [الرحيق المختوم: 241].

ومثال آخر: يقول الله تعالى (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)) [آل عمران]. وهذه الآية من الآيات التي نزلت كذلك عقب غزوة أحد وهي تخص واقعة حمراء الأسد المعروفة.. حيث حدثت قريش في نفسها بالرجوع إلى المدينة والإغارة على الدولة الإسلامية الفتية، وبعث أبو سفيان برسالة إلى المسلمين مع ركب من عبد القيس يخبرهم بما تريده قريش، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سقيان، فكان رده صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل.

ويظهر من هذه الواقعة التي نقلها القرآن الكريم أن قصد أبي سفيان تثبيط المسلمين مرة أخرى وكسر معنوياتهم، إلا أن المسلمين قد وعوا درس أحد فتصدوا لهذه الإشاعة بما يكفي لدحضها[1].

 

منهج القرآن في الوقاية من الإشاعة

حرص القرآن على مكافحة الإشاعة وتحصين المسلمين من التأثر بإشاعات المغرضين من الاعداء، وعمل على بناء الشخصية القوية والمجتمع المتين الذي يعجز الاعداء خرقه، ومن معالم هذا التحصين والبناء ما يأتي:

أولا – زرع عقيدة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر في نفوس المؤمنين، حيث يتيقن المسلم بهذه المبادئ الإيمانية ان النصر من عند الله وحده، فلا يخشى إلا الله، ولا يستعين إلا به.

ثانيا – التأكيد على مولاة المؤمنين والبراءة من الكافرين والمنافقين، ففي الولاء للمؤمن يقول الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)). وفي الولاء الآثم الخاطئ يقول الله تعالى:  (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)) [المائدة].

ثالثا – نظام العبادة في الإسلام، فلا تكاد توجد عبادة في الإسلام إلا وفيها تأكيد النقطة الأولى (العقيدة) والنقطة الثانية (الولاء والبراء).

خذ مثلا صلاة الجمعة والجماعة، فالمسلمون يذكرون الله من الأذان إلى الإقامة حتى التسليم أذكارا تجدد معاني الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر، وهذه العبادة يؤديها المسلمون صفوفا متراصة.

وخذ كذلك الزكاة التي هي عبادة لله تزكي النفس وتطهرها، وهي في الوقت نفسه تكافل اجتماعي متينن وعلاج المشكلة الاقتصادية، وتقوية الأواصر بين الطبقات الاقتصادية المختلفة في المجتمع الإسلامي.

وكذلك الحج والصوم والأعياد فكلها عبادات جماعية تهدف إلى تحقيق معاني الإيمان ومعاني الولاء للمؤمنين.

رابعا – نظام الأخلاق الإسلامي، فقد أقام الإسلام نظاما متكاملا لتحصين الفرد والأسرة والمجتمع وتوطيد البناء للأمة المسلمة حتى تكون كالبنيان المرصوص. من ذلك قوله تعالى: (ياأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات]. وغيرها من الآيات المشتملة على نظام الأخلاق الإسلامي، وهي نصوص تهدف إلى بناء الصف الإسلامي بناء أخلاقيا يقف بوجه التحديات.

خامسا – درء المفسدة وعدم إعطاء العدو المادة التي يمكن أن يحولها إلى دعاية لصالحهن وخير مثال على ذلك أن عبد الله ابن أبي سلول شيخ المنافقين قال غير مرة كلمة الكفر وآذى رسول الله في شخصه وأهل بيته، وكلما أشار المسلمون على رسول الله بقتله قال صلى الله عليه وسلم: “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”.

منهج القرآن في مكافحة الإشاعة وعلاج آثارها

لقد أرسى الإسلام قاعدة جليلة وعظيمة لمكافحة الإشاعة بجميع أنواعها، وإبطال مفعولها بسرعة قبل أن تتمكن في المجتمع، وهذه القاعدة هي: التكذيب الفوري للإشاعة اعتمادا على سوء الظن بمصدرها وحسن الظن بالمؤمنين.

قد يظن البعض أن منهج الإسلام إزاء الإشاعات التي يطلقها العدو هو التثبت والتحقيق والمحاكمة القضائية، ولكن الذي يعرف طبيعة الحرب النفسية وأهدافها يعلم ان هذا المنهج غير سديد لأنه في الكثير من الأحيان تكون الإشاعة قد آتت ثمارها السيئة قبل أن يتمكن إلى الوصول إلى الحقيقة. مثال ذلك ما أشيع يوم أحد من مقتل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث إن تصديق بعض المسلمين أو مجرد التوقف قد أدى إلى كارثة حقيقية، ومثل هذه الإشاعة لا تكافح بالمنهج التحقيقي لأن المسألة مسألة وقت،، لان العدو لا يهمه بعد هذا أن يعرف الناس الحقيقة أو لا يعرفون، طالما أن الغرض من الإشاعة قد تحقق بالفعل.

والخلاصة أن مكافحة الإشاعة وردها بناء على سوء الظن بمصادرها أو على حسن الظن بالمؤمنين هو المنهج القرآني بل حتى لو كان الخبر بذاته حقيقة فلا نلام نحن على سوء الظن بقائله .


[1]  محمد عياش الكبيسي، منهج القرآن في مكافحة لإشاعة، مجلة الأحمدية، العدد الخامس، المحرم 1421، صفحة (142)