في المحاكم الأمريكية هناك ما يسمى بـ”المحلفين”، وهؤلاء- رغم عدم تخصصهم القانوني- يملكون الحق في إدانة المتهم أو تبرئته، مهمتهم في القانون الأمريكي تتسم بالتعقيد، وتخضع لإجراءات خاصة، منها عزلهم عن المجتمع أثناء النظر في القضية، لضمان عدم التأثير عليهم.
هذه الفكرة دخلت إلى الولايات المتحدة عن طريق المستعمرين الأوائل، وهناك من يقول إنها انتقلت من مالطا، وآخرون يرون أنها مستوحاة من التجربة الإسبانية، لكن المؤكد أن كلا التجربتين ورثتا التجربة القضائية الإسلامية.. لا يهمنا هنا كثيرًا مصدر الفكرة بقدر ما يعنينا أصلها.
فكرة المحلفين مستوردة من الفقه المالكي في الإسلام، وهي آلية قضائية تهدف إلى معالجة خلل قضائي، وتعرف في الفقه الإسلامي باسم “اللفيف”.
الشهود العدول هم الأصل في القضايا، وتُشترط فيهم صفات عامة مثل الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة، والضبط، والحرية، وعدم وجود مصلحة في القضية. إذا فقد الشاهد أحد هذه الشروط سقطت عدالته، ولم تقبل شهادته.. لكن، ماذا لو وقعت حادثة ولم يوجد شهود عدول؟
هنا يظهر دور الفقه المالكي، الذي تمسك في البداية- كغيره من المذاهب الإسلامية- بعدم قبول الشهود غير العدول. ولكن مع مرور الزمن خُفّف هذا الشرط، فتم قبول شهادة غير العدول عند تعذر وجود العدول.. في هذه الحالة، يُقدَّم الأصلح والأقل فجورًا لتجنب ضياع الحقوق وهدر الدماء، استنادًا إلى القاعدة الفقهية “التكليف شرط الإمكان”.
لهذا ظهرت تلك الاستثناءات من قبيل العمل المنطقي لاستقرار المعاملات، مثل إجازة شهادة النساء عند الإمام مالك في قضايا السرقة، وعندما سُئل: “كيف تقبل شهادتهن وهنَّ غير عدول؟”، أجاب: “أين نجد العدول في مواضع السرّاق الذين يرتكبون جرائمهم في أوقات الخلوات؟”. باختصار، يوضح الإمام مالك أن السارق لن يظهر في المسجد أو في أماكن عقلاء القوم ليُعلن: “سأسرق منزل فلان”، بل إن طبيعة السرقة تتطلب تجنب وجود الناس في أماكن الجريمة.
حتى إن بعض كبار الفقهاء أجازوا أخذ شهادة الموجودين في الملاهي، بعضهم ضد البعض، نظرًا لتعذر حضور الشهود العدول في أماكن أُعدت للفسق. ولئن رفض الفقهاء عادة شهادة الصبيان بشكل مطلق، فقد استثناهم الإمام مالك، حيث أجاز أخذ شهادتهم في قضايا القتل والجرح، أي في الدماء.
تلك الأفكار والاجتهادات الفقهية تطورت لتنشأ معها فكرة أخرى، هي جلب أكبر عدد من الشهود ليشهدوا على شيء واحد، وتتواتر شهاداتهم وتقوّي شهادة كل واحد منهم شهادة الآخر، بما يبعث الظن على صدقهم، خاصة إن كانوا من أماكن شتى ويتعذر اتفاقهم.
لذا، طُبقت تلك القواعد القانونية الفقهية، لتصبح لها مع الوقت قواعد خاصة سميت باسم “اللفيف”. وهم 12 شخصًا في الغالب، وشهادتهم تكون وفق ما لديهم من علم حول واقعة معينة حدثت، سواء من خلال مشاهدتهم أو معرفتهم. ويرفع الفقهاء العدد إلى 18، ويمكن أن يصل إلى 20 إذا تعلق الأمر بالرشد أو السفه، وسبب التشدد ورفع العدد في هاتين الحالتين أن الأمر يتعلق بالحصول على المال أو فقده، والفكرة في ذلك أن هذا العدد الكبير لا يمكن أن يتواطأ على الكذب، إذا تم اختيارهم عشوائيًا، وكان ما يخبرون به هو مشاعًا بين الناس.
هناك أمر مهم، وهو أن شهادة اللفيف تُقبل إذا لم يوجد عُدول في المكان الذي وقع فيه الاعتداء من قتل، أو جرح، أو سرقة، أو في الشهادات المالية، لكن هذه الشهادة لا تُقبل إذا توفر العدول، فإذا بُنيت شهادة ما على لفيف- مهما بلغ عددهم- وتم إثباتها في القضاء، ثم تبين لاحقًا أن جلب العدول كان ممكنًا، تُبطل تلك الشهادة ويُلغى الحكم.
وقد شرح القضاء المغربي فكرة العدد في اللفيف، حيث أكد أن كل ستة من اللفيف يعادلون عدلًا واحدًا، ومن التطبيقات: إذا كان هناك حق مالي يتطلب شاهدين، ولم يتوفر سوى عادل واحد ولفيف، يُقدَّم العادل مع أخذ اليمين من صاحب الحق، ويُستبعد اللفيف. لذا، لا يمكن تقديم اللفيف على العدول في أي حالة، حتى مع عدم توفر شرط العدد، وأما إذا تعارضت شهادة مجموعتين من اللفيف، تُرجح كفة المجموعة الأصلح والأكثر منطقية.
المغرب، الذي يستند قضاؤه إلى المذهب المالكي، وضع قواعد كثيرة لآلية عمل اللفيف، وتطورت هذه القواعد مع الزمن، وقد بُنيت الفكرة منذ البداية على مبدأ فقهي مهم وإشكالية حقيقيه، وأُجريت بحوث عديدة لتعزيز هذه التجربة.
وبلا شك، فقد انتشر هذا الأثر الجميل للفقه الإسلامي، ويُستأنس به اليوم في التعامل القضائي في العديد من الدول، حتى تلك التي لا تنتمي إلى الدين الإسلامي.