مع الانفتاح الاقتصادي وانتعاشه في هذا العصر، وتنوع طرق الكسب والمعاش، وطروء التغيرات على ثقافة المعاملات وفق ما يقتضيه الاجتماع البشري، والتوسع العمراني والتبادل الحضاري، سواء على مستوى الماديات كالبيوع والإجارات والشركات ونحوها، أو على مستوى الأدبيات التي مدارها ما يصدر من الإنسان مما ينطق باللسان أو يقوم بالجوارح، نحو الصدق والأمانة والصبر وغيرها، فإن الإنسان في مسيرة الحياة يفتقر إلى اقتناء منافع ومكاسب تعينه على العيش وإساغته، من مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك، مما هو في حيز المباحات، وتوفير الضروريات التي تمثل قوام الحياة وثباتها واستمرارها، أو يستحيل بقاء وجود الإنسان إذا انعدمت هذه المصالح الضرورية.
فهذا الإنسان كما وصفه ابن خلدون: مفتقر بالطّبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوءه إلى أشدّه إلى كبره )وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد: 38]. والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتنّ به عليه في غير ما آية من كتابه فقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية: 13].
وجوب الكسب الحلال وأهميته
جاء الإسلام ليلبي حاجيات الناس في المعاش ويحقق لهم رغباتهم النفسية والبشرية سواء من جانب مصالح الروح أو الجسم، فأباح لهم الكسب والانتفاع من الحلال الطيب، يقول الله تعالى في خطاب موجه للبشرية: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 168]، ومثلها ما جاء في آية المائدة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [87-88].
جاء التقييد أو الوصف بالحلال الطيب، وهما حالان لاسم الموصول (ما)، ويفيد أولهما (حلالا) بيان الحكم الشرعي لما يراد أكله، والثاني (طيبا) لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح. والطيب في الآية المقصود منه ما تستطيبه النفوس بالإدراك المستقيم السليم من الشذوذ وهي النفوس التي تشتهي الملائم الكامل أو الراجح بحيث لا يعود تناوله بضر جثماني أو روحاني. وقد يفسر الطيب بما يبيحه الشرع الحنيف [التحرير والتنوير: 2/102].
وهذه الآية وغيرها تعد أصلا يدل على طلب الكسب والتكسب حيث يحيل أن يكلفنا الشرع بتناول الحلال إلا بالتحري، وهو مما يتطلب الاحتراف والتكسب، ولما أوجب علينا الشارع أن نتحرى في المأكل والمشرب وكذا المصالح الضرورية، اقتضى ذلك وجوب الكسب لما يترتب على ذلك من مقاصد عالية في الإسلام، ومنها:
1- أن الاكتساب يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه، وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة ولتحصيل القوت طرق، الاكتساب أو التغالب أو الانتهاب وبالانتهاب يستوجب العقاب، وفي التغالب فساد والله لا يحب الفساد، فتعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت. فإذا كان أداء الواجب من العبادات يتطلب الأدوات التي ترافقه، فإن الواجب على المكلف السعي في تحصيل هذا النوع من الأدوات والقيام بالواجب على أتم وجهه، مثل الماء للوضوء وكذا الإناء أو الصنبور حسب الحال المعتاد في هذا العصر، فإن الواجب توفير هذه المعدات التي تشترى، ولذلك يستدعي الاكتساب، فكان الكسب واجبا فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو كذلك واجب.. [الكسب، محمد الحسن الشيباني: 37].
2 – أن الكسب وسيلة التوفيق بين خيري الدنيا والدين، ولضرورة الكسب اختاره الله تعالى طريق الأنبياء والمرسلين والفائزين الذين شغلهم معاشهم لمعادهم، فاتخذوا من المعاش وسيلة وزاد المعاد، فقد جاء صريحا في القرآن الكريم الأمر بالبحث عن المعاش وتسخيره لنيل مرضاة الخالق سبحانه، فقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 10]، جمعت الآية في معرض الطلب الجازم بالانتهاض لصلاة الجمعة، أوامر منها ما كانت على وجه اللزوم ، مثل القيام إلى صلاة الجمعة حين ينادى بها، ومنها ما كان من قبيل طلب إباحة وهو الكسب من منن الله تعالى في هذا الكون، وختمت الآية بوجوب الذكر، فجاء الأمر بالكسب بين واجبات شرعية، وأوامر دينية، بين الصلاة والذكر، وذلك تنويها بأهمية الكسب وطلب الرزق، والحذر من تغليب السعي في الرزق على أمر الدين.
يقول ابن عاشور: (الأمر بالإكثار من ذكر الله فيه احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصبابا ينسي ذكر الله، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإقبال على مرضاة الله تعالى).
ومجيء (وابتغوا من فضل الله) بصيغة الأمر الذي يدل على طلب الرزق والمعاش، ووقوعه بين هذه الأوامر المذكورة دعا السرخسي إلى القول بوجوب السعي، وخولف وقيل: الأمر هنا للندب، وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية.
قال الألوسي: والقول بأن الأمر في هذه الآية للندب هو الأقرب والأوفق، بل اعتمد هذا الطريق في رد الاستدلال على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة. [روح المعاني: 14/298].
والطريق السديد الجمع بين خيري الدنيا والدين، والاعتدال في طلب غاياتهما، دون الميول المنسي إلى الدنيا، ولا التقشف في ضروريات المعاش، إيثارا للمعاد، وكان خير الهدي هدي النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليهم أجمعين، فقد روى الطبري وغيره عن عبد الله بن بسر الحبراني، قال: رأيت عبد الله ابن بسر المازني صاحب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا صلّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلّى الله تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ” الآية[1].
ويقول الإمام الغزالي: ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد، ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة.
وأشار العز بن عبد السلام إلى رتبة الاعتدال في الكسب وهي التي تمثل طريق الانبياء، فقال: (ن طلب لذات المعارف والأحوال في الدنيا ولذة النظر والقرب في الآخرة فهو أفضل الطالبين، لأن مطلوبه أفضل من كل مطلوب، ومن طلب نعيم الجنان وأفراحها ولذاتها فهو في الدرجة الثانية، ومن طلب أفراح هذه الدار ولذاتها في الدرجة الثالثة). [قواعد الأحكام: 1/12].
3 – حفظ كرامة الإنسان من السؤال والطلب، فإن العمل الذي يقوم به الإنسان، أو الوظيفة والمهنة التي يلتزم بهان ويكسب من ورائها يصون له كرامته، ويقي وجهه من سؤال الناس، وقد تعددت النصوص وكثرت في النهي عن سؤال الناس لا سيما إذا كان السائل قادرا، لديه قوة تعينه على الكسب، بل إن النبي ﷺ حرم الصدقة على ذي مرة من الرجال، في الحديث المشهور[2].
ويترتب على هذا الحديث مسألة فقهية معروفة حيث اختلف العلماء في القوي القادر على الكسب، هل تحل له الصدقة أم لا؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا تحل له الصدقة، ولا يحل للمزكي أن يدفع للقوي القادر على الكسب، ولو دفع له وهو يعلم بحاله فإن هذه الزكاة لا تجزئ، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة[3].
وقال الحنفية: تحل له الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم وهو أقل نصاب الزكاة، وإن كان صحيحا مكتسبا، لأنه فقير أو مسكين، وهما من مصارف الزكاة؛ ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها، وهو فقد النصاب، ومثله قال المالكية، لكنهم شرطوا الكفاية في الاستحقاق[4].
والمقصود أن الكسب أحد مظان دفع الحاجة عن الناس وصيانة كرامة النفس من السؤال على غرار الأحاديث الشديدة الناهية عن سؤال الناس مع القدرة على الكسب، لما تحويه من الاحتقار والامتهان للنفس بالسؤال.
لهذا السبب اعترض محمد بن الحسن الشيباني على بعض الجهلة من النساك حين حملوا آيات البيع والشراء على التجارة مع الله، بطلب الثواب منه، وأنها ليست على حقيقتها، وبالتالي منعوا الكسب وآثروا التقشف، ثم رد عليهم بكلام فصل طويل ومما ذكر: ” العجب من الصوفية أنهم لا يمتنعون من تناول طعام من أطعمهم من كسب يده وربح تجارته مع علمهم بذلك فلو كان الاكتساب حراما لكان المال الحاصل به حرام التناول لأن ما يتطرق إليه بارتكاب الحرام يكون حراما ألا ترى أن بيع الخمر للمسلم لما كان حراما كان تناول ثمنها حراما وحيث لم يمتنع أحد منهم من التناول عرفنا أن قولهم من نتيجة الجهل والكسل. ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله من أهل السنة والجماعة أن الكسب بقدر مالا بد منه فريضة”
ثم قال: والمعقول يشهد له فإن في الكسب نظام العالم والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائها وجعل سبب البقاء والنظام كسب العباد وفي تركه تخريب نظامه وذلك ممنوع منه [5].
[1] قال الهيثمي: رواه الطبرانى فى الكبير، وعبد الله الحبرانى ضعفه يحيى القطان وجماعة، ووثقه ابن حبان. مجمع الزوائد: 2/194.
[2] حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوي». أخرجه أحمد في المسند (11/84)، والترمذي (652) وغيرهما بإسناد صحيح.
[3] المغني (6 / 423)، والمحلي على المنهاج (3 / 196)، والمجموع (6 / 190).
[4] فتح القدير (2 / 28)، الدسوقي (1 / 494).
[5] الكسب (44 – 47).