توحَّدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله، ثمَّ جهاد الصَّحابة مع الصِّدِّيق تحت راية الإِسلام لأوَّل مرَّةٍ في تاريخها بزوال الرؤوس، أو انتظامها ضمن المدِّ الإِسلامي، وبسطت عاصمة الإِسلام ـ المدينة ـ هيمنتها على ربوع الجزيرة، وأصبحت الأمَّة تسير بمبدأٍ واحدٍ، بفكرةٍ واحدةٍ، فكان الانتصار انتصاراً للدَّعوة الإِسلاميَّة، ولوحدة الأمَّة بتضامنها، وتغلُّبها على عوامل التفكُّك، والعصبيَّة، كما كانت برهاناً على أنَّ الدَّولة الإِسلاميَّة بقيادة الصِّدِّيق قادرةٌ على التغلُّب على أعنف الأزمات.

ولقد خلَّفت حروب الردَّة آثاراً ونتائج لم تكن محدودة الزَّمان، والمكان، وإِنَّما شملت أجيالاً وآمادًا، وتصوُّرات، وأفكاراً، وسلوكياتٍ، وأحكاماً ما زالت تغذِّي الأجيال من بعدها، وتمدُّها بالكثير، ومن أهمِّ تلك النتائج:

1 ـ تميُّز الإِسلام عمَّا عداه من تصوراتٍ، وأفكارٍ، وسلوك

بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اختلطت الأمور ببعضها، وسارعت الأعراب إِلى الردَّة، فكان منهم المؤلَّفة قلوبهم، أو من المنافقين، أو الَّذين أسلموا رغم أنوفهم، وفي وقتٍ متأخِّرٍ، أو من الَّذين لم يسلموا أصلاً، ومن أمثلة الصِّنفين الأوَّلين إِسلام عيينة بن حصن الفزاري؛ الَّذي أسلم إِسلاماً فيه دخنٌ كبيرٌ، ولذا ما إِن هبَّت نار الفتنة حتَّى استجاب لها، وباع دينه بدنيا طليحة الأسدي، ولمَّا أسر، وبعث إِلى أبي بكرٍ مقيَّداً بالأغلال كان فتيان المدينة يمرُّون عليه، فينخسونه بالجريد، ويقولون: أي عدو الله! أكفرت بعد إِيمانك؟! فيقول: والله ما كنت امنت بالله قطُّ! ومن هؤلاء الذين يقال: إِنَّهم لم يسلموا أصلاً قبيلة عنس اليمنيَّة، وهي قبيلة الطَّاغية الأسود الَّذي ادَّعى النُّبوَّة، وفعل في بلاد اليمن الأفاعيل، ونكَّل بالمسلمين.

ومن أمثلة سوء الفهم لنصوص الإِسلام الَّتي أدَّت بهؤلاء إِلى الكفر أنَّ بعضاً منهم أنكر الزَّكاة محتجّاً بمدلول قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [التوبة: 103].

فقد جاء في التَّعليق على هذه الآية في تفسير ابن كثير ـ رحمه الله ـ قوله: اعتقد بعض مانعي الزَّكاة من أحياء العرب: أنَّ دفعها إِلى الإِمام لا يكون، وإِنَّما كان هذا خاصّاً برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد احتجُّوا بقوله تعالى: وقد ردَّ عليهم هذا التَّأويل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} السَّقيم والفهم الفاسد أبو بكر، وسائر الصَّحابة (رضوان الله عليهم) وقاتلوهم حتَّى أدَّوها إِلى الخليفة، كما كانوا يؤدُّونها إِلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وظهرت العصبيَّة القبليَّة بقوَّةٍ، فهذا مسيلمة الكذاب يقول لبني حنيفة محرِّضاً إِيَّاهم على اتِّباعه، وإِنكار حقّ قريش بالنُّبوَّة: أريد أن تخبروني بماذا صارت قريش أحقَّ بالنُّبوَّة، والإِمامة منكم؟! والله ما هم بأكثر منكم، ولا أنجد، وإِنَّ بلادكم لأوسع من بلادهم، وأموالكم أكثر من أموالهم.

وهذا الرَّجال بن عنفوه الحنفي الَّذي أضلَّه الله على علمٍ بعد أن قرأ القران، وفقه في الدِّين يقول في حقيقة النُّبوَّة بين رسول الله، ومسيلمة: كبشان انتطحا، فأحبُّهما إِلينا كبشنا. وهذا طلحة النمريُّ قال لمسيلمة عندما راه، وسمع منه ما علم به كذبه: أشهد أنَّك كذَّاب، وأنَّ محمداً صادقٌ، ولكن كذَّاب ربيعة أحبُّ إِلينا من صادق مُضر.

بل إِن مسيلمة يعرف كذب نفسه، فلمَّا كانت معركة اليمامة، وبدت الغلبة للمسلمين؛ قال له أصحابه محنكين عليه: أين ما كنت تعدنا به من النَّصر، والآيات؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم، فأمَّا الدِّين فلا دين.

واختلطت عليهم التصوُّرات، والأفكار، والسُّلوكيَّات، والآمال، وعمل المرتدُّون على إِنهاء الإِسلام، ومحوه من الوجود، وتكالبت قوى الشَّرِّ على ذلك، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، وأُحبطت جميعها بتوحُّد المسلمين، وتجمُّعهم، وتكتُّلهم حول القاعدة الصُّلبة للمجتمع الإِسلاميِّ؛ الَّتي تربَّت على يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأصبحت تشبه القطب المغناطيسي الضَّخم الَّذي قام ـ بحكم طبيعته، وخصائصه ـ بجذب كلِّ مَنْ كان مؤهَّلاً للإِسلام، ويحمل خاصِّيَّة الانجذاب إِلى هذا القطب المغناطيسي الضَّخم الفعَّال، فقد أدَّى هذا التجمُّع إِلى إِظهار قوَّة الإِسلام، ليس بكثرة العدد والعُدَّة، وإِنَّما في قوَّة تفرُّده تصوُّراً، وفكراً، وسلوكاً في لبناته الصُّلبة، وتربيتها الفذَّة الَّتي تربَّت عليها تلك اللبنات مجتمعةً، والقوَّة في وضوح التَّعامل مع الحدث دون مواربةٍ، أو تريُّثٍ، أو إِغماضِ عينٍ وفتحِ الأخرى، وإِنَّما كانوا واضحين وضوح عبارة أبي بكرٍ الصِّديق للمسلمين جميعاً: من كان يعبد محمَّداً؛ فإِنَّ محمَّداً قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإِنَّ الله حيٌّ لا يموت.

إِنَّ من نتائج أحداث الردَّة حفظ التصوُّر الإِسلاميِّ من التَّحريف، والتَّشويه، وأَنْ تجرَّدت الرَّاية الإِسلاميَّة من العصبيَّة الجاهليَّة، والولاء المختلط، وصارت خالصةً من أيَّة شائبةٍ، وأنَّ التَّصوُّر الإِسلاميَّ لا يقبل المداهنة مهما كانت الظُّروف المحيطة، وأنَّ القوَّة الإِسلاميَّة لا ترتبط بالعدد ولا العدَّة، ولكن بقوَّة الإِيمان والرُّوح المعنويَّة، وأنَّ الأصل دعوة النَّاس إِلى الإِسلام، وليس مقاتلتهم، فالدَّعوة أوَّلاً، وأنَّ الحرص على النَّاس هو المقدَّم على كلِّ شيءٍ.

2 ـ ضرورة وجود قاعدةٍ صلبةٍ للمجتمع

أظهرت أحداث الردَّة معادن أصيلةً في بنية قاعدة هذه الدَّولة، وكشفت عن عناصر صلبةٍ، فلم يكونوا أفراداً متناثرين، ولكنَّهم كانوا يشكِّلون القاعدة لهذا المجتمع، ولهذه الدَّولة، ولم تكن قاعدةً رخوةً، أو هشَّةً، أو ساذجةً، وإِنَّما كانت قاعدةً صلبةً واعيةً، تدرك حقيقة نفسها، وحقيقة عدوِّها، وتعي أبعاد المخاطر من حولها، وتخطِّط بانتباهٍ، ويقظةٍ كاملةٍ في مواجهة كلِّ الصِّعاب، وهي مع هذا وذاك موصولةٌ بالقوي العزيز، ولهذا انتصرت على كلِّ خصومها، وأزالت كلَّ العوائق من طريقها، فقد حافظت هذه القاعدة على الإِسلام، ودولته، وساهمت في جمع الحشود لكسر شوكة أهل الردَّة، وعملت على لمِّ شمْل النَّاس من حولها، وتمَّ بفضل الله، ثمَّ جهود هذه القاعدة الصُّلبة حفظ كيان الأمَّة، وبقائها، وتنميتها.

3 ـ تجهيز الجزيرة كقاعدة للفتوح الإِسلاميَّة

بمجرَّد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) تناثرت التجمُّعات، وتمرَّدت كثيرٌ من القبائل على الخليفة، وقام الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ مع الصَّحابة بعملٍ شاقٍّ عظيمٍ استطاعوا أن يُخضعوا القبائل للدَّولة، وأشرف الصِّدِّيق على تنفيذ الخطط التَّربويَّة، والتَّعليميَّة، والحربيَّة، والإِداريَّة، ونجح نجاحاً باهراً، والتحمت القبائل العربيَّة مع الدَّولة الإِسلاميَّة وأصبحت جزيرة العرب بسكَّانها قاعدة الفتوح الإِسلاميَّة بعد ذلك، وصارت هي النَّبع الَّذي يتدفَّق منه الإِسلام؛ ليصل إِلى أصقاع الأرض فاتحاً، ومعلِّماً، ومربِّياً.

إِنَّ جزيرة العرب هي قاعدة الفتوح، فكيف يتسنَّى الفتح إِذا لم تكن له قاعدة، أو كانت هذه القاعدة مضطربةً غير مستقرَّة، أمَّا الآن فقد أصبح ممكناً تعبئة كلِّ طاقات شبه الجزيرة، وحشدها للأعمال الحربيَّة الَّتي تلت.

4 ـ الإِعداد القيادي لحركة الفتوح الإِسلاميَّة

ومن خلال أحداث الردَّة الَّتي ميَّزت الصُّفوف، وامتحنت الطَّاقات، والقدرات، وكشفت عن الطَّبقة التي كانت تغطي معادن الأمَّة، ظهرت المعادن الخسيسة على حقيقتها، وأعطيت القيادة للمعادن النَّفيسة الصُّلبة المصقولة لتمسك بزمام الأمور في حركة الفتوح، فالمصادر التَّاريخيَّة تمدُّنا بمعلوماتٍ جمَّة عن قياداتٍ لم تكن من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الصَّحابة، ولكنَّهم تربَّوا من خلال كتاب الله مباشرةً، ثمَّ صقلتهم أحداث الردَّة، وميَّزتهم عن غيرهم، ليصلوا إِلى صدارة الجيوش الفاتحة، وشهد لهم الجميع بالحنكة، والأداء المتفاني، والإِيمان الصَّادق.

هذا وقد كانت القيادة المركزيَّة في المدينة وميادين القتال تديرها قياداتٌ غايةً في التَّفاهم، والتَّعاون، والتَّحابِّ على الرَّغم من بعد المسافات، إِلا أنَّ التَّوازن الرَّائع بين دور كلٍّ من القيادة المركزية، وقيادات ميادين القتال كان واضحاً، وبارزاً.

5 ـ الفقه الواقعي للردَّة

وردت العديد من النُّصوص القرآنية، والأحاديث النَّبويَّة الَّتي تحدَّثت على الردَّة كحالة تعتري بعض البشر، وكلُّ ما ورد من النُّصوص ظلَّت في إِطارها العامِّ النَّظري الثابت، ولم تكن قد مورست بشكلٍ عامٍّ في الواقع، ولما وقعت الردَّة، وعاشها المسلمون عمليّاً، واستنبطوا لها أحكاماً على ضوء تلك النُّصوص، كانت تلك الاستنباطات معالم هاديةً لفقه تلك النُّصوص، ويتَّضح هذا من نقاشٍ بين الصَّحابة حول موقفهم من هؤلاء القوم، فكانوا يعودون إِلى النُّصوص يدرسون، ويتحاورون حولها، وسرعان ما يتَّفقون على صورةٍ واحدةٍ سواءٌ في تقييمهم، وتوصيفهم الوصف المنطبق عليهم، أم في طريقة معاملتهم، فهذه الوقفات العمليَّة أمام الحدث والنَّصِّ أنتجت أبواباً في كتب التَّشريع الإِسلاميِّ ضمَّت تفصيلاتٍ تشريعيَّةً دقيقةً عن أحكام الردَّة، ثمَّ صار عمل الصَّحابة سابقةً فقهيَّةً تؤخذ في الاعتبار عند استنباط اجتهادٍ، أو تطبيق حكمٍ فيما بعد.

6 ـ {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}

إِنَّ أيَّة محاولةٍ للتمرُّد على دين الإِسلام سواءٌ أقام بها فردٌ، أم جماعةٌ، أم دولةٌ، إِنَّما هي محاولةٌ يائسةٌ مالها الإِخفاق الذَّريع، والخيبة الشَّنيعة؛ لأنَّ التمرُّد إِنَّما هو تمرُّدٌ على أمر الله المتمثِّل بكتابه؛ الَّذي تكفَّل بحفظه، وحفظ جماعة تلتفُّ حوله، وتقيمه في نفوسها، وواقعها مدى الدَّهر، وبحكمه القاضي بالعاقبة للمتَّقين وبالمنِّ على المستضعفين أن يُديل لهم من الظَّالمين. إِنَّ مصير الكائدين لدين الله هو البوار في الدُّنيا، والآخرة، وما أجمل ما قال الشاعر:

كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوهِنَهَا           فَلَمْ يَضُرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَه الوَعِلُ

7 ـ استقرار التنظيم الإِداري في الجزيرة

استقرَّ التَّقسيم الإِداريُّ بعد انتصار الصِّدِّيق في حروب الردَّة على نظام الولايات، وهي: مكَّة، وكان أميرها عتَّاب بن أسيد. والطَّائف، وأميرها عثمان ابن أبي العاص. وصنعاء، وأميرها المهاجر بن أبي أمير. وحضرموت، وواليها زياد بن لبيد. وخولان، وواليها يعلى بن أميَّة. وزبيدة، ورقع، وواليهما أبو موسى الأشعري. أمَّا جَنَد اليمن؛ فأميرها معاذ بن جبل. ونجران، وواليها جرير ابن عبد الله. وجرش، وواليها عبد الله بن ثور. والبحرين وواليها العلاء بن الحضرميِّ. وعُمَان، وواليها حذيفة الغلفان. واليمامة، وواليها سليط بن قيس.

 

 

 


مراجع البحث:

1 – د. علي محمّد محمَّد الصَّلاَّبي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق، ص. ص (313 : 319).

2 – أحمد عادل كمال، الطَّريق إِلى المدائن، دار النفائس، الطبعة السادسة، 1986م، ص182

3 – د. علي العتوم، حركة الردَّة، مكتبة الرسالة الحديثة، عمَّان، الطَّبعة الثَّانية، 1997م ص 114 – 124- 334

4 – د. عبد الرحمن الشُّجاع، دراساتٌ في عهد النُّبوَّة والخلافة الرَّاشدة، دار الفكر المعاصر، الطبَّعة الأولى 1419هـ 1999م.، ص323: 329

5 – ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ، القاهرة: دار الحديث، 1415ه، 1994م، (2/386)

6 – منصور أحمد الحرابي، الدَّولة العربيَّة الإِسلاميَّة، جمعية الدعوة الإسلامية، ليبيا، 1989م، ص97.